بقلم: د/ عزالدين معزة
تمر علينا هذه الأيام الذكرى 31 على أحداث أكتوبر 1988 ، ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود عليها ، إلا أن الغازها ما زالت غامضة ، ما عدى الإجماع حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت من الأسباب الرئيسية لها ، ولحد الآن ما زالت أراء الجزائريين منقسمة حول المتسبب فيها ، هل كانت مدبرة من جناح من النظام الرافض لسياسة الأحادية الحزبية والنظام الشمولي ؟ أم أنها كانت “عفوية ” رغم أن معظم المؤرخين يتفقون بعدم وجود عفوية في التاريخ
هذه الأحداث الأليمة أو الانتفاضة الشعبية كما يسميها بعض الجزائريين تسببت في سقوط أكثر من 500 قتيل جزائري ومئات الجرحى والموقوفين…والمتابعين قضائيا .. وخسائر مادية تقدر بملايين الدولارات.
يرى بعض المحللين السياسيين أنها ثورة بطن وجوع ، ويرى آخرون أنها ثورة سياسية ضد النظام الديكتاتوري الشمولي .
وسأحاول في هاته العجالة أن أعرج باختصار على أسبابها البعيدة والقريبة،
من الأسباب البعيدة لهاته الأحداث مؤثرات خارجية التي كان لها دور ثانوي في بلورة الوعي السياسي لدى الجزائريين وخاصة فئة الشباب منهم ، منها الثورة الإسلامية الإيرانية التي انتهت بانتصار الشعب على نظام محمد رضا بهلوي ، الديكتاتوري ، وكان لهذا الانتصار صدى واسع في العالم العربي والإسلامي بصفة عامة ومنها الجزائر ، فقد تداول الجزائريون إخبارها بشيء من التفاؤل والأمل والفرح وأصبحت مثالا يتقدى به خاصة لدى فئة الشباب ذات التوجه السياسي الإسلامي ، ويضاف إلى هذا المؤثر الخارجي كذلك ، الحرب الأفغانية ـ الروسية وبروز تحالف إسلامي عربي ضد الاتحاد السوفييتي ” سابقا” وهو الحلف السعودي ـ الباكستاني ، ومع العلم أن مئات من الشباب الجزائري جندوا في هذه الحرب ومنهم من قتل فيها وبعضهم عاد إلى الجزائر حاملا إيديولوجية الجهاد ضد( الأنظمة الكافرة) ـ حسب نظرهم ـ الموالية للنظام السوفييتي ، سيطروا على المساجد وأقاموا فيها ندوات واجتماعات بعض صلاة العشاء خاصة، حاملين فيديوهات تظهر العجائب والغرائب والمعجزات في قدرة المسلمين على مواجهة (الكفار) …مع العلم أن هاته الفيديوهات كانت من صنع المخابرات الأمريكية ..
ومن العوامل الأخرى الخارجية كذلك ، الحرب العراقية ـ الإيرانية التي دامت 8 سنوات ورأى فيها الشباب ذي التوجه الإسلامي أنها حرب ضد تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية إلى العالم العربي ..
يضاف إلى هذا كله انخفاض أسعار البترول حيث انخفض سعره إلى 13 دولار للبرميل الواحد ، مع العلم أن تكلفة إيصال البترول الجزائري إلى موانئ التصدير يصل إلى أكثر من 10 دولارات للبرميل الواحد
والأثر الأكبر هو تصدع المعسكر الشرقي الاشتراكي وقبول الحزب الشيوعي السوفييتي بالتعددية الحزبية
هذه بعض المؤثرات الخارجية التي ساهمت في نشر الوعي السياسي لدى الفئة الشعبية الجزائرية وخاصة الشباب المتحمس للحرية والعدالة الاجتماعية ..
أما العوامل الداخلية التي كان لها النصيب الأكبر في أحداث 5 أكتوبر 1988 فيمكننا الإشارة إليها باختصار شديد ، لأن ذلك يتطلب بحثا أكاديميا معمقا وليس في مقال صحفي سريع
اذكر من أسبابها الداخلية ، النظام الشمولي الديكتاتوري الذي طبقته الدولة الوطنية بعد مرحلة الكولونيالية ، هذا النظام الشمولي كان بيد الجيش الذي استمد شرعيته من الثورة التحريرية، وجهازه السياسي الذي يحمل إيديولوجيته وهو حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان دائما يجد مبررات للنظام الشمولي العسكري .. مع وجود نظام إداري متعفن ومتخلف ومرتشي ، انتشار الرشوة ، تعطيل مصالح المواطنين ، حتى أصبح المواطن البسيط يضطر إلى الوساطة لاستخراج شهادة الميلاد أما بطاقة التعريف الوطنية فكان يستغرق استخراجها من الإدارة أكثر من 6 أشهر وجواز السفر قد يتراوح استخراجه في احسم الأحوال سنة كاملة. لمن لهم الحظ ، فمعظم ملفات طلب جواز كانت ترفض لأسباب مجهولة ولا يحق لأحد حتى الطعن في قرار الإدارة وأمره لله .
- خطاب الشاذلي.. اللغز
ومن الأسباب القريبة والمباشرة لأحداث 5 أكتوبر 1988، خطاب الرئيس الشاذلي بن جديد ، في 19 سبتمبر 1988الذي قال فيه بالحرف الواحد :” ما كان حتى شيء في البلاد ، لا جيش ، لا حكومة ، ولا حزب ، وعلى الشعب أن يدافع عن نفسه “
استقبل الشعب الجزائري خطاب الرئيس الشاذلي بكثير من الاهتمام والألم والحسرة معتبرا، أن الرئيس أسير عصابة تتشكل من بعض الضباط النافذين وديناصورات حزب جبهة التحرير الوطني والجهاز الإداري المتعفن التابع لهم ..فلم يمض أسبوعان على خطاب الشاذلي حتى انفجر الوضع في الجزائر..
هذه بعض الأسباب السياسية التي ساهمت بشكل مباشر في أحداث 5 أكتوبر 1988
أما الأسباب الاقتصادية فيمكننا اختصارها في :
انخفاض أسعار المحروقات وعجز الحكومة عن توفير المواد الاستهلاكية وعلى رأسها بعض المواد الغذائية مثل السميد والقهوة والحمص والعدس أما الأدوات الكهرومنزلية أصبحت شبه منعدمة نهائيا في الأسواق ، هذه الندرة ساعدت على خلق سوق موازي عجزت الحكومة عن التحكم فيه ، مع انتشار دعاية وسط المواطنين بأن هذه الأسواق الموازية تابعة لجنرالات،بهدف السيطرة على الاقتصاد الوطني وضرب أسواق الدولة …مع عجز الميزان التجاري الجزائري واللجوء إلى المديونية الخارجية ، مع ارتفاع نسبة البطالة بشكل خطير رافقها أزمة حادة في السكن ويضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة النمو الديموغرافي الحاد…
مجريات أحداث 5 أكتوبر 1988
في هذا اليوم ، اختفت الشرطة من شوارع العاصمة وجردت من أسلحتها وسمح للمواطنين بالتجمع في معظم أحياء العاصمة منددين بالنظام ورافعين شعارات ” الشاذلي أساسان ” مجرم ” مساعديه سراق المالية “
لتنتشــر بعـــدها الأعمـال الإجرامیـة التخریبیة فقـام هـؤلاء المتظـــاهرون بتخریــب الممتلكات العمومیة ووقعت مشادات في حي باب الواد بین المتظـاهرین وقـوات الأمـن إلـى غایــة الفجــر واسـتعملت فیهــا بعـض القنابل المسـیلة للـدموع وتخللتهــا بعــض الاعتقالات،
فـي صـبیحة الیـوم الثـاني تطـورت الأحـداث لتأخـذ مجـرى آخـر، فاتسـعت رقعتهــا لتشــمل أحیـــاء أخــرى بالعاصــمة وهــي: بوزریعـــة، باســتور، شــارع محمـــد الخــامس، بـــن عكنــون، الأبیـــار، حســین داي، بلكــور، القبـــة، ســـاحة أول مـــاي والرويســو، وأیضـا مـدن وقـرى مـن الوسـط كسـطاوالي، دالـي إبـراهیم، عـین البنیـان، الشـراقة، بوفاریـك، البلیدة، عین طایة وبرج البحري.
وامتدت الأحداث إلى الولایات الأخرى كوهران، قسـنطینة، عنابـة، تیـارت، مسـتغانم، ســطیف، قالمــة والمســیلة، وجيجل فكــان التخریــب أساســا موجهــا لمقــرات الحــزب وقســماته وكــذالك المساحات الكبرى التابعة للقطاعات العامة كالأروقة وأسواق الفلاح
شــملت كذلك بعــض الوزارات كــوزارة الشــباب والریاضــة التــي أحرقــت بكاملها، ووزارة الحمایة الاجتماعیة التي تعرضت للنهب ووزارة التربیة التي أحرقـت، حوصـرت وهوجمـت بعـض الـوزارات كـوزارة النقـل ووزارة العـدل، أمـا المنشـئات القریبـة مـن ً، وبصــفة أقــل خربــت مراكــز الحــافلات والشــرطة، ریــاض الفــتح فقــد حطمــت وكســرت كلیــا وهــذه الأخیــرة التــي اغتــنم ذوي الســوابق العدلیــة فرصــة وجــودهم فیهــا – مراكــز الشــرطة- وقــاموا بــإحراق كــل الوثــائق والملفــات الموجــودة بهــا والتــي تــدینهم، وأرغمــوا أعــوان الأمــن الموجودین فیها على القیام بحركات بهلوانیة أو الرقص وسقطت خلال هذا الیوم أولى الضحایا بساحة أول ماي.
كنتیجة للتقاریر التي تم تقدیمها للرئیس مـن طـرف خلیـة وبعض الجهات الأمنیة والتي مفادها هو عجز الشـرطة عـن احتـواء الوضـع، بـذلك تطبیـق المـادة 119 مـن الدسـتور التـي نصـت علـى إعـلان الحكومـة لحالـة الحصـار واستدعاء الجیش الذي لم یدخل للعاصمة منذ انقلاب 1965
اجتمـع الشـاذلي وزیـر الـدفاع بكبـار قیـادات الجـیش وعین الجنرال “عبد االله بلهوشـات” نائـب وزیـر الـدفاع ورئـیس الأركـان مـدیرا لحالـة الحصـار ویسـاعده فـي ذلـك كـل مـن الجنـرال “خالـد نـزار” نائـب رئـیس الأركـان وقائـد القـوات البریـة ..
- يوم 7 أكتوبر 1988
صــبیحة هــذا الیــوم المتســم بانتشــار الجنــود والــدبابات فــي الأماكن الإستراتیجیة من جهة، ومن جهة أخرى كان الهدوء یعم أهم أحیاء العاصـمة حتـى وهنــا نظمــت أول مســیرة ضــخمة متجهــة مــن القبــة وبــاب الــواد إلــى المستشــفى الجـامعي “مصـطفى باشـا” للمطالبـة بجثـث ضـحایا مسـجد الوفـاء بالقبـة، وأمـام المستشـفى أوقف الجیش المسیرة بعد المفاوضات مع المتظاهرین.
وجــدیر بالــذكر أن هــذه المســیرة كــان قــد دعــا إلیهــا “علــي بلحــاج”، تراجـع بعـد ضـغط مـن الإمـام “كمـال نـور”، وتزامنـا مـع المسـیرة كـان الشـیوخ ( كمـال نـور، علـي بلحـاج، الهاشــمي سـحنوني، محمــد حمیـدات) فـي بیـت “أحمــد سـحنون” لاستشارته، وتقرر عن ذلك الذهاب إلى مدیریة الأمن الوطني وسلموهم مجموعة من المطالب، قیادة الأركان: ومتكونة من خالد نزار، محمد تواتي، محمـد العمـاري،
تازمت أوضاع أكثر من 7 أكتوبر إلى 11 أكتوبر 1988 وسقط قتلى في المظاهرات
- ظهور الشاذلي مجددا
يوم 10 أكتوبر 1988 في نشرة أخبار الثامنة مساء المتلفزة، يظهر الشاذلي بن جديد على التلفزيون، ودعا المواطنين للتعقل، ووعدهم بغد أفضل، وبإصلاحات في جميع المجالات السياسية والاقتصادية، وكان الهدوء قد عاد إلى كل أحياء العاصمة وما جاورها وفهم الجزائريون أن ثمة تلميح لتغيير في نظام الحكم، وأن الجزائر مقبلة على الانفتاح، وهو ما تم فعلا، حيث رحل شريف مساعدية عن جبهة التحرير الوطني ليخلفه عبد الحميد مهري، وأقر الشاذلي دستورا جديدا أقر التعددية السياسية والإعلامية في الجزائر، وفتح مجال النشاط واسعا لكل التيارات السياسية مهما كانت انتماؤها، وأقر حرية التعبير أيضا، كما فتح المجال الاقتصادي للقطاع الخاص·
يوم الأربعاء 12 أكتوبر: ترفع حالة الحصار لتدخل الجزائر مرحلة ما بعد الانتفاضة.