تمكنت “أخبار الوطن” من زيارة المتحف العمومي الوطني البحري بالجزائر العاصمة، نظرا لموقعه الاستراتيجي وتابعيته لمنطقة عسكرية خاصة بأمرالية الجزائر، لنحظى باكتشاف أقباء خير الدين بربروس الشاهدة على العصر الذهبي لرياس البحر، والذي يعود تاريخه لأكثر من خمسة قرون، وبتالي يعتبر جزء من تاريخ البحرية الجزائرية.
روبورتاج: صارة بوعياد
كانت الساعة تشير إلى التاسعة إلا ربع حين دخلنا الأقباء المحاذية للأميرالية الجزائرية، والمتمركز على طول 200 متر وجاء عرضه 8 أمتار ونصف، وعمقه 3 أمتار، تم بناءه في سنتين، من حجارة تامنفوست وتيبازة بالإضافة إلى حجارة حصن “البنيو”.
هنا وقفت “أخبار الوطن” أمام مدخل قبو خير الدين بربروس مقر المتحف العمومي الوطني البحري، الشاهد على خمسة قرون مضت، كان فيها قبو خير الدين كشوكة في مدينة الجزائر.
ليصبح في الفترة العثمانية أكبر وأعظم أسطول في البحر المتوسط، لتصبح الجزائر مرسى العالمية والنقطة الأساسية بالمغرب إسلامي ككل، وقد وصفها سبنسر في عهد رياس البحر “إن الجزائر تعد جوهرة البحر الأبيض المتوسط، ودار الجهاد ضد أوروبا، ومعلم بحري بالدرجة الأولى”.
يحتوي من جهته الجنوبية كتابة تأسيسية للبرج، وأجزاء من أعمدة رخامية، وشاهد لقبر قدم كهبة من أميرالية الجزائر، كما يحتوي على أربعة أفران ومعجنة تعود إلى الفترة الاستعمار الفرنسي، ومن الجهة الشمالية نجد مدفعين، قدم الأول كهبة من الأميرالية والثاني وجد بأعالي بوزريعة أثناء الأشغال.
ونحن نسير في القبو الذي اتخذ شكل أقواس عديدة وحجارة تعود إلى الفترة العثمانية، نجد بنايات تعود للفترة الاستعمارية، وبمكاتب إدارة المتحف نجد معرض مصغر يحتوي على عدة مجسمات بحجم صغير للعدة سفن، منها سفينة سفانكس من حجم صغير، إلى جانب رسومات وكذا محتويات السفينة كالمسامير وغيرها.
وللعلم إن المتحف العمومي الوطني البحري، أنشئ طبقا للمرسوم التنفيذي رقم 332/ 07 المؤرخ في 30 جويلية 2007، مثريا بذلك جهود المحافظة على الذاكرة الوطنية البحرية، وخطوة لتوثيق الإرث الثقافي البحري بالدراسة والتحقيق.
تبنت عملية الإنشاء والتمويل وزارة الثقافة، حيث عرفت أشغال الترميم استعجالية مست قبو خير الدين مقر المتحف، نظرا لأهمية الموقع البالغة كونه جزء من الذاكرة التاريخية لمدينة الجزائر، وكذا إعادة الاعتبار لمعلم يجسد ثراء الذاكرة البحرية الجزائرية، لكن ما يؤسف المتحف توقف حاليا عن أشغال الترميم.
خير الدين حرر حصن “البنيو” وجمع جزيرة “صطيفلا“
رافقتنا في الزيارة “راضية شرفاوي” رئيسة مصلحة جرد المجموعات المتحفية، التي حدثتنا عن تاريخ قبو خير الدين، الذي يعتبر مهد لقيام البحرية الجزائرية في الفترة العثمانية في بدايات القرن 15 وأواخر القرن 16.
قالت شرفاوي: “تم اختيار المتحف البحرية بالاتفاق من وزارة الثقافة وبالاشتراك مع وزارة الدفاع الوطني، لتكون الأقباء التي يثبت تاريخها أنها مهد لقيام البحرية الجزائرية بالمفهوم المعاصر، حين قام خير الدين بربروس بعدما حرر حصن “البنيو” جمع جزيرة “صطيفلا” التي تعد من أكبر الجزر لمدينة الجزائر باليابسة وهو ما شكل رصيف البحري.”
موضحة في ذات السياق، أن مدينة الجزائر استعمرت من قبل الاستعمار الاسباني في عام 1510 من طرف حملة بيدرونفاروا، وتم البناء على الجزيرة حصن “بنيو”، أو الحصن ذو الصخرة، لكن الاسبان كانوا يستغلون السكان وينهبون الثروات المدينة.
وهنا أقدمت الجزائر على طلب العون من قبل الإخوة بربروسة “خير الدين وعروج”، اللذان ذاع صيتهم في البحر الأبيض المتوسط بنصرة المسلمين، وبقدومهم اتخذوا من مدينة جيجل كميناء وكقاعدة أولية لهم لتحرير الجزائر، وبعدم عدة محاولات توفي عروج في معركة ضد الاسبان بنواحي تلمسان، وحالف الحظ خير الدين بربورس لتحرير حصن “البنيو” عام 1529 وأول ما قام به خير الدين تهديم الحصن، وبالحجارة تلك قام ببناء الأقباء.
قالت راضية شرفاوي: لـ “أخبار الوطن” في رواية تاريخية أخرى “إن الأقباء أنشئت من قبل علي باشا عام 1814 حسب الكتابة التأسيسية التي تتواجد بأمرالية الجزائر، لكن لو نشاهد تقنيات البناء ومراحله سنجد أن هذه المنشأة أنشئت قبل التاريخ المذكور. ومن الأجدر معرفة أن أميرالية الجزائر واجهت عدة حملات منها حملة “اكسمورث” التي أدت إلى تهديم الجهة الشرقية للميناء مما أدى إلى تهدم كل المنشآت والتي تم إعادتها في عهد الداي حسين، ومنه نستنج أن الكتابة التأسيسية احتمال كبير ألا تكون دقيقة.”
وعن طريقة استغلال أقباء خير الدين أبرزت شرفاوي، قد تم استغلال هذا القبو في العهد العثماني، وأطلق عليه عدة تسميات منها مخازن أقباء خير الدين بربروس، أقباء خير الدين بربروس، أو أقباء رصيف خير الدين بربروس، ولهذه التسميات معنى وأسباب.
وفي العهد الفرنسي تحولت الأقباء في جهتها الشمالية إلى سجون حيث يقال أنه جمع 2000 أسير، ومن الجهة الجنوبية تحولت إلى مخبزة لتزويد الجهات الفرنسية بالمؤونة، ومن الشواهد على ذلك أربعة أفران وحاملة الخبز ومعجنة توجد بالأقباء، ومن أهم الإضافات التي أضيفت لهذه الأقباء إضافة النوافذ في الفترة الفرنسية.
“عشرة رحى حجرية بمدينة تامنفوست تعود للفترات القديمة”
صرح مصطفى علالي رئيس مصلحة الحفظ والترميم بالمتحف العمومي الوطني للمتحف البحري، ورئيس مصلحة الحفظ والترميم، لـ “أخبار الوطن” عن مجريات العمليات الخاصة بالتراث المغمور بالمياه، لما تحتويه أعماق البحار من مخلفات أثرية وبشرية تعتبر جزء من التراث الثقافي الوطني.
قال مصطفى علالي: “قام المتحف البحري المكون من خمسة غواصين جزائريين ومختصين في علم الآثار، بالجرد وتوثيق العناصر التراث الثقافي المغمور بالمياه، بعدة عمليات من بينها جرد ورفع مرساة غارقة بمدينة دلس التي تعود للفترات القديمة الرومانية، وعشرة رحى حجرية بمدينة تامنفوست التي تعود للفترات القديمة أيضا.
ومؤخرا كانت عملية جرد وتوثيق لـ 23 مدفع أثري يعود للفترة العثمانية بشاطئ الحمدانية بتيبازة، حيث كانت العملية على مرحلتين تم تقسيم المدافع إلى قسمين أين تمت عملية الجرد والتوثيق لستة عشر مدفع ضمن المرحلة الأولى التي دامت لأربعة أيام، والمرحلة الثانية تم جرد وتوثيق باقي المدافع، وللإشارة عملية الجرد وتوثيق قائمة على تسجيل كتابي ورفع أثري وتسجيل بالصور الفتوغرافية والفديوهات.”
كما أوضح علالي، أن الرفع الأثري يقوم على أخذ القياسات وتوجهات المدافع لتكوين بطاقة تقنية لكل تحفة، والغرض من هذه العملية التحسيس بأهمية التراث المغمور، حيث يتراوح طول المدافع ما بين 1.50 إلى 2.10 وهي من الحجم الكبير.
وبما أن شاطئ الحمدانية قائم على مشروع بناء ميناء كبير سيكون جزء منه في نفس موقع تواجد المدافع، وعليه من مهام المتحف تكوين ملف أثري حول المدافع من الناحية التاريخية والأثرية وكذا التقنية، والتحسيس بعمليات العلاج والحماية التي يجب توفرها للمدافع بعد استخراجها.
وأكد رئيس مصلحة الحفظ والترميم، أنه من المهم جدا أن تحفظ بتحفة الأثرية أو قطعة من التراث على نفس الهيئة التي وجدت عليها في البداية، وان لم تتوفر على وسط الحفظ الملائم لها سنفقدها، وبذلك نعتمد على عدة علاجات تتم على التحفة الأثرية المغمورة بالمياه في حالة استخراجها.
ويوجب الإبقاء على “الكلوريدات” وهي المادة المسؤولة عن صدى وتآكل المعادن، حيث لابد من توفير استقرار للمعادن، إضافة إلى مادة “الكتروليز” الخاصة بنزع الأملاح التي تتواجد داخل المعادن، وعندما يتم توفير وسط الحفظ المناسب لها من حرارة ورطوبة وعدم تلوث وهي شروط ومعايير الحفاظ على التحفة الأثرية المغمورة بالمياه تحفظ على المدى البعيد، وتبقى معروضة للأجيال الأخرى، التي من خلالها نتمكن من معرفة تاريخ المنطقة، وأهم المراحل التاريخية التي مرت عليها.
ويجدر الذكر أن علم الآثار المغمور، يعد كمصدر في إعادة تشكيل أجزاء من تاريخ وثقافة المجتمعات، لكونه يعتمد على استنطاق المخلفات والشواهد المادية، وعليه سجل علم الآثار الغارقة اضافات هامة لكونه يعنى بدراسة وحدات أثرية متكاملة تشكل ذاكرة مدن وذاكرة مكان غمرته المياه، منها بواخر ومدن وتحف أثرية تستوطن أعماق البحار، وإن حماية واستغلال هذه الآثار يستوجب إمكانيات علمية ومادية متطورة.
“أنفوراتان ضمن عملية الترميم بالمتحف“
اعتبرت صورية مديون رئيسة قسم الجرد والحفظ والترميم، أن الاهتمام بالمجموعات المتحفية عن طريق تكوين بطاقات جرد للتحفة تكون من خلالها اللغة الأثرية، ليتم بعدها تسجيلها ضمن السجلات الخاصة بالمتحف، والتي تكون مطبوعة ومؤطرة من طرف المتحف ومن قبل الوزارة الوصية.
ومن جهة أخرى، أشارت ميدون، أن عملية الحفظ تتمثل في وضع التحفة في بيئة مناسبة لها، بعيدا عن العوامل الخارجية التي من الممكن أن تؤذي التحفة الأثرية، ولذلك توضع التحف في علبة زجاجية للتحكم في نسبة الحرارة والرطوبة، ومن عوامل البشرية لابد من حفظها من اللمس، لأن المخولين الوحيدين للمس التحفة الأثرية هم المختصين في علم الآثار وكذا ملحقين بالحفظ.
وكشفت مديون، أن المتحف يعمل على ترميم بعض التحف الأثرية منها الأنفورات التي وجدت تحت سطح البحر، حيث نقوم بنزع الأملاح المتواجدة بها، ليتم عرضها في درجة حرارة ورطوبة متحكم بها، مما يتطلب أيضا ننزع الفطريات والترسبات التي تكونت إما بطريقة ميكانيكية أو بطريقة أخرى على حسب الفطريات، بالإضافة إلى بعض المسامير لسفينة سفانكس التي وجدت في نواحي تامنفوست، وبعض العملات النقدية.”
أنهت “أخبار الوطن” زيارتها إلى المتحف العمومي الوطني البحري، الذي يشكل تراث ثقافي بحري على امتداد الشريط الساحلي والواجهة البحرية للوطن، ليسجل ضمن المعالم الثقافية والحضارية، ذاكرة وتاريخ الملاحة الجزائرية، كونه يعد النواة الأولى للبحرية الجزائرية.
وقد عرفت الجزائر إنجاز منشئات بحرية ازدهرت فيها النشاطات التجارية، وما بين القرن 16 والقرن 18 عرفت البحرية الجزائرية تطوير مهم في الصناعة البحرية، أفضت أن تكون الجزائر أكبر قوة بحرية متوسطية.