لا جدال في كون القبضة الحديدية بين نقابة القضاة والوزير زغماتي – وإن كانت تحركها مصالح فئوية – شخصيةً بحتة؛ لوجود قرائن عديدة ومتعددة تؤكد هذا الكلام وتنفي مزاعم إضراب القضاة من أجل استقلالية القضاء وإحلال القسط والعدالة بين الناس. إلا أن المسألة برمتها تحيلنا على أزمة تعيشها مؤسسات الدولة وتراكمت بشكل تراجيدي حتى باتت كالبركان يهدد بردم البلد.
فالأزمة التي اندلعت فجأة بين نقابة القضاة والوزير بلقاسم زغماتي تبرز – بما لا يدع مجالا للشك – أن تغوّل السلطة التنفيذية لم يعد مخفيا حتى أبسط قابعٍ على الرصيف، وتغوّل السلطة هنا لم يأتِ بطرق ملتوية وإنما بنصوص قانونية وتنظيمية تتجلى مثلا في ترأس رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقضاء وينوب عنه وزير العدل في ذات المجلس، وهذا الوضع المعوّج لم يكن يوما ما مشكلة للقضاة الذين دسوا رؤوسهم في مكاتبهم وعقدوا ألسنتهم إلى درجة بات الناس يتحدثون عن شراء القضايا في المقاهي، وآخرون ممن تقطعت بهم السبل يبحثون عن وساطات علَّ هاتف ما يوصلهم إلى حكم مخفّف أو براءة مزيفة.
حدث هذا طيلة العقود الماضية، تماما مثلما يحدث في قطاعات أخرى، فالسلطة التنفيذية نفسها لعبت على مدار عقود كاملة دور السلطة التشريعية، فاحتكرت التشريع وبات البرلمان غرفة للتسجيل وتقسيم الريع.
السلطة ذاتها بسطت سيطرتها على السلطة الرابعة، فلم يعد صوتٌ يعلو على صوت السّلطة، إلى درجة أصبحت السلطة تمارس “المونولوغ”؛ تتكلم وحدها وتنتظر رجع صداها من إعلام علّق مصيره بحبل قاتل.
إذن: نحن أمام أزمة هيكلية عميقة تتطلب الشجاعة في الاعتراف بها، ولكن أيضا الشجاعة في البحث عن حل جذري لها، ولن يكون – في رأينا – ما لم ننخرط في مشروع وطني يفضي إلى بناء جزائر جديدة، قِوامها الفصل بين السُلطات، وعمادها الحرية والعدالة والديمقراطية.