الأكاديمي والأستاذ الجامعي، عمر بوساحة يؤكد لـ “أخبار الوطن” :
“أزمة السميـد” وراء أحداث 5 أكــــــــتــــــوبـــــــــــر 88..
سأله : أحمد لعلاوي
أرجع الأكاديمي والأستاذ الجامعي، عمر بوساحة، أسباب اندلاع أحداث 5 أكتوبر 1988، إلى العامل الاقتصادي، حيث أكد بأن انهيار أسعار النفط، في السوق العالمية، فجر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد قبل 30 سنة مضت.
وقال بوساحة في حوار مع “أخبار الوطن”، أن إصابة الاقتصاد الوطني، بالشلل التام على الرغم من الاستدانة العشوائية التي لم تعد تلبي إحتياجات البلد من الغذاء، أوصل البلاد ووصلنا إلى حافة “المجاعة” بحيث أصبح السميد يباع بالاقساط وكذلك كل المواد الغذائية الأخرى.
ولم يفوت الأستاذ الجامعي، ورئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، الفرصة للحديث على الحراك السلمي الذي تعيشه الجزائر، مؤكدا بأنه ناجم على حالة الوعي المتزايد، وطغيان الفساد المستشري في البلاد خلال السنوات الأخيرة، هو ما جعل الجزائريين يثورون في 22 فيفري الماضي ضد السلطة القائمة.
شكلت أحداث 5اكتوبر88، منعرجا حاسما، في المسار السياسي للدولة الجزائرية، برأيكم مالذي فجر أحداث أكتوبر ؟
تفجرت الأحداث بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلد بسبب الانهيار غير المسبوق لأسعار النفط فالمجتمعات التي يقوم اقتصادها على مصدر واحد، كحالنا، معرضة دوما لمثل هذه الأزمات الحادة.
فقد وصل سعر النفط في أواسط الثمانينات إلى اقل من سعر تكلفة انتاجه فأصيب اقتصاد البلد بالشلل التام على الرغم من الاستدانة العشوائية التي لم تعد تلبي احتياجات البلد من الغذاء ووصلنا الى حافة المجاعة بحيث اصبح السميد يباع بالاقساط وكذلك كل المواد الغذائية الأخرى.
لم يستطع الناس مقاومة هذه الأوضاع خاصة وهم يشاهدون سلطة عاجزة وفاقدة لكل أهلية مثَلها حكم الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وحكوماته المتتالية عن مواجهة تلك الأوضاع مع فساد استشرى في كل مفاصل الادارة، وقمع للحريات السياسية والاجتماعية ما فتئ يمارسه الحزب الوحيد الذي حكم البلد منذ الاستقلال الى نهاية الثمانينات من القرن الماضي. لقد استغل بعض جنرالات الجيش ودينصورات حزب جبهة التحرير ومن تحالف معهم ضعف مؤسسة الرئاسة في تلك المرحلة والتي كان على رأسها شخص ضعيف جاؤوا به لعدم تفاهمهم بعد وفاة الرئيس بومدين. لقد سخروا كل أملاك الدولة ومؤسساتها المتهالكة لهم ولعائلاتهم، فاستولى هؤلاك على الاملاك العمومية فيما سمي بالاصلاحات على أملاك بأسعار يخجل الانسان من ذكرها، وقد تمَ كل ذلك أمام أنظار الناس فحصل الانفجار الذي استهدف مباشرة كل المؤسسات التي ترمز لتلك الدولة المضعضعة، كمقرات الحزب والبلديات والوزارات وامتدت الأيادي للبنوك والمؤسسات التجارية وغيرها للنهب والسرقات. لقد كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية الأسباب الرئيسة التي جعلت الشعب ينتفض بالعنف الذي كان، ومرده للاحتقان الذي دام لسنوات من القهر السياسي وتردي الاوضاع المعيشية.
أما عن الذين يروجون لنظرية صراع العصب في اجهزة الحكم على أنها كانت السبب فيما حصل، فأولائك من أنصار نظرية المؤامرة التي ترى في الشعب قطيعا لا يمكن ان يتحرك سوى بإعاز من حكامه، هؤلاء أناس يعملون على تثبيط عزائم الناس ويشككونهم في ذكائهم على أنهم لا يقدرون على تغيير مصائرهم، وهم لا يزالون يقومون بذلك، وهو في الحقيقة أسلوب تستعمله السلطات بالأساس لتقتل لدى الجماهير كل إرادة في التغيير..
حلم التغيير الذي جاء به دستور 23 فيفري، 89 أجهضته، الأحداث الدامية التي عرفتها الجزائر فيما بعد، كيف أثرت الأزمة على عملية التحول الديمقراطي في البلاد ؟
صحيح كان دستور 89 يحمل ارادة سياسية من أجل الخروج من حكم الحزب الواحد والاتجاه نحو انفتاح سياسي يراعي ظروف الجزائر وأحولها، ولكن الاستبداد الذي أناخ على الجزائر لمدة عقود من الزمن لم يسمح بالذهاب السلس الى مجتمع منفتح على الفكر الذي يقبل بالتعدد والديمقراطية، فدخلت الجزائر في مرحلة من الفوضى والاضطرابات.
استغلتها قوى الاسلام السياسي الذي بدأ بالتشكل في الجزائر منذ نهاية السبعينات ان لم يكن قبل ذلك، فدفع بالأمور الى مزيد من الاحتقان مستغلا الأوضاع المعيشية المزرية التي كان يعيشها الجزائريون في تلك الفترة والغضب الشديد الذي كان يسكن نفوسهم تجاه حكومات الشاذلي بن جديد، مستغلا بطبيعة الحال العواطف الدينية التي تميز الجماهير الشعبية.
فتحولت الديمقراطية التي جاء دستور 1989 ليبشر بها الى عدو يجب مقاومته وأصبحت الدولة طاغوتا والأحزاب التي كانت تسمي نفسها بالاحزاب الديمقراطية عدوا يتربص بالاسلام والمسلمين يجب تحييدها، حتى وان اقتضى الأمر استعمال العنف الجسدي.
وقد حدث ذلك بالفعل حتى قبل إلغاء الانتخابات التي فازت بها جبهة الانقاذ.
وبعد هذا الالغاء انفتح الامر على كل أبواب جهنم فقامت الحرب على كل رافض لفكر اسلام سياسي هو أكثر الأنواع تطرفا ودموية مما أغلق نهائيا الكلام حول الديمقراطية وأصبح النضال حينها يذهب باتجاه انقاذ الدولة الجزائرية الوطنية التي أصبح وجودها مهددا بالفعل.
لم تكن المأساة الوطنية التي مررنا بها أمرا هينا وبسيطا ولم يكن الارهاب الذي سلَط على الجزائريين أمرا يسمح لهم في تلك الظروف بالعودة السريعة الى المطالبة بالحرية والتعددية السياسية السليمة، فنشأت في تلك الظروف أحزاب هي في الواقع روافد للسلطات القائمة ولجان مساندة، وأخرى تحاول ان تستثمر في هوامش الفضاءات الدينية التي ظلت على التخوم من جماعات التطرف الديني لكنها لم تكتسب مصداقية لأن التطرف كان هو السيد في تلك الأزمان.
بعد 30 سنة، وبالضبط في 22 فيفري، الجزائريون يعودون إلى الشارع من أجل التغيير كيف تقرأ ذلك ؟
استغل النظام الذي جاءت به تضحيات الجزائريين ونصَبته لحماية الدولة والحفاظ عليها الأوضاع الأمنية التي مرَت على البلد ومآسيها ليضغط على الجزائريين ويخوفهم بقضايا الأمن، وراح ينهب أمام أعينهم خيرات البلد، فشاع الفساد وأصبح ثقافة وأسلوب كل من يحصل على مكان في دواليب الدولة وإدارتها، وتراجعت الحريات بكل أنواعها، السياسية والاجتماعية، بسبب استغلال المخاوف الأمنية من طرف السلطات التي جعلتها وسيلتها في الاجهاز على عائدات البترول فتزايدت البطالة والفقر وكل الآفات التي ترافق مثل هكذا أوضاع.
لقد أصبح الجزائريون غرباء في بلدهم، ففي الوقت الذي كان الجميع ينتظر أن تنفرج الأمور بسبب البحبوحة المالية التي عرفها البلد، ازدادت الأوضاع سوء، وبعد أن تحسنت الأوضاع الأمنية ازداد التضييق الأمني والسياسي على الجزائريين.
لقد هيأت العصابة التي حكمت الجزائر في السنوات الأخيرة كل الظروف المناسبة لسرقة أموال الشعب، ووصلت الأمور إلى ما نعرفه من قلة الحياء لدى هؤلاء على البقاء في السلطة حتى وان استدعى الأمر ترشيح رئيسا في وضعية مست بكرامة الجزائريين وشوهت صورة البلد في الخارج وأهانتها .
لم تعد الاعتبارات الأمنية تقنع أحدا في هذا البلد على الرغم من ادعاءات السلطات واستخدامها كذريعة لقمع كل مطالب التغيير ومحاربة الفساد التي نادى بها الجزائريون منذ سنوات فقامت الاحتجاجات المطلبية في كل مدن الجزائر وقراها، ولعلَنا نتذكر تلك الاحتجاجات التي تقوم عن السكن والشغل وتوفير شروط الحياة الكريمة لسكان القرى والمداشر إلى غيرها من المواجهات، وبتراكم هذه الاحتجاجات تحولت بعد ما انتبه الجزائريون إلى سلطات البلد ذاهبة في تعنتها ورافضة لتغيير أساليبها في حل المشاكل، فتحولت عند هذه اللحظة الاحتجاجات من صفتها المطلبية الى مطلب سياسي، فقد فهم الجزائريون ان قضيتهم قضية سياسية بامتياز، وعليهم لتجاوز حالهم المزري، المطالبة بتغيير النظام، فالعصابة وبوتفليقة المقعد والفساد والظلم…. لا تزيحها مطالب فئوية أو قطاعية ولكن بوقوف الجميع ضد نظام فاسد من أساسه لتغييره جذريا.
لقد وعى الجزائريون جميعا هذا الأمر فثاروا ضد الطغيان ونظام الفساد والاهانة فصنعوا في لحظة تاريخية فارقة حراكا وطنيا حقق انجازات لم تتحقق في الجزائر منذ استقلالها وأبانوا عن وعي وطني أذلوا به العصابة وأزاحوها تلك العصابة التي استغلت وطنيتهم وسرقت أموال الشعب وخيرات البلد.
إستطاع الحراك السلمي أن يوقظ شعلة التغيير، عند المواطن لكنه لم يتمكن إلى غاية الآن من ترجمته في حل سياسي كيف تقرؤون مستقبل الحراك الشعبي في مثل هذه الظروف ؟
باعتقادي علينا ان لا نقلل من انجازات الحراك فنظرة سريعة لما تحقق في الأشهر الأخيرة تبين أن الجزائريين حققوا ما كانوا يعتقدون أنها كانت أحلاما.
صحيح فقد كنا نأمل في إزاحة سريعة للنظام ومخلفاته ولكننا نعتقد بأن الأمور ستأتي تباعا ومهما حاولت بقايا النظام الالتفاف على انجازات الحراك. لم نقرأ في تاريخ الشعوب والدول ان المطالب السياسية تنجز دفعة واحدة بل ان أغلبها يأتي بالتدرج وبمراحل، بشرط أن نستمر في يقظتنا، فلا يجب ان نستسلم للهزيمة أو اليأس لأننا في الحقيقة انتصرنا. وإمارات الضعف التي نعتقد بأن الحراك لم يستطع تجاوزها أو أن هناك مطالب لم يحققها ولم ينجزها كالتمثيل والتوافق حول شخصيات تقوده، هي أمور قد تحدث في كثير من الثورات في العالم. فالمهم في وضعيتنا ان ننظر مثل ما يقال الى النصف المملوء من الكأس وهو يشير الى ان الجزائريين قد حققوا انجازا عظيما في مسيرتهم لبناء جزائر جديدة يصعب على كل جاحد انكاره لقد أصبحنا نتكلم الآن من دون أي مكابرة عن جزائر ما قبل 22 فيفري وجزائر ما بعد هذا التاريخ..