الدكتور/عبد السلام فيلالي
مر مرور الكرام صمويلهنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات. إعادة صنع النظام العالمي”، (ترجمة طلعت الشايب) على القضية الفلسطينية، فلم يشر إليها إلا كأحد مخرجات الصراع بين الإسلام والغرب. ولم يذكر اسم فلسطين إلا كي يقول به، بينما نحن كعرب ومسلمين نعتبرها قضية مركزية ضمن هذه المواجهة الشاملة التي عنوانها الأولي والنهائي : إنهاء الهيمنة الغربية. ليس تجاهلا موقفه، إنه ينم عن نظرة قوامها الحسم، أي أن الغرب قد استطاع انهاء ملف هذه المواجهة خاصة بعد اسقاط أكبر القوى المناهضة له: مصر جمال عبد الناصر، جزائر هواري بومدين، عراق صدام حسين، تراجع ليبيا معمر القذافي، مشاركة سوريا بشار الأسد في التحالف الدولي ضد العراق سنة 1991. فالمشهد بالنسبة إليه تحددت معالمه. ومعطيات اليوم تختلف عن معطيات فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة (نشر الكتاب سنة 1996). فهو لم يشهد: انسحاب الكيان الإسرائيلي من جنوب لبنان في سنة 2000، انهاء احتلال الولايات المتحدة للعراق بعد ضربات المقاومة العراقية-ولاحقا من أفغانستان. انسحاب قوات الكيان من غزة في سنة 2005 ووقوف المقاومة اللبنانية للند للند لها في سنة 2006. وأخيرا وليس آخرا، تراجع النفوذ الأمريكي عموما بعد وقف الحرب في اليمن وإبرام الاتفاق الإيراني السعودي. كما أنه لم يكن في إدراكه، كما اليوم، معطيات المواجهة سواء عن تصميم الفلسطيني على عدم التسليم بالأمر الواقع الذي تفرضه موازين الصراع والتوجه نحو إنهاء القضية من خلال مسلسل التطبيع وتعويض “إسرائيل” لفلسطين في التعاملات والمخيال الشعبي العربي-الإسلامي، من حيث أن التنازل عنهاهو زيغ عن الدين والمبادئ القومية التي حكمت تقييمه لاحتلال أرض فلسطين وطرد أهلها منها. وحتما لن يستطيع مواصلة التغاضي عن جرائم الاحتلال التي تبرز اليوم في أبشع صورها، بعد عملية طوفان الأقصى.
الذي سعى إليه هنتنغتون في سياق التسليم بهيمنة الغرب وبالتالي ما يفترض من استسلام نهائي، هو أنه يطرح فكرة عدم الوصول إلى مواجهة مع الإسلام. إننا نجاري اختزال المواجهة في متغير الإسلام لأنه، من وجهة نظرنا في هذه الحالة، يجب استحضار مفهوم الحرب الصليبية. منهجه في ذلك هو أن يتم تفكيك المواجهة بأن تحل دول المركز في الحضارات الرئيسية محل القوى الكبرىفي السياسة الكونية الناشئة، التي تصبح بالتالي:” هي أقطاب الجذب والطرد بالنسبة للدول الأخرى”. أي دول محورية. وهو الوضع الذي لم يتحقق نظرا لعدم وصول أي من الدول الإسلامية الكبرى إلى هذا القدر من القوة والاستقطاب.
يقدِّر كاتبنا أن حضارات الإسلام وأمريكا اللاتينية وإفريقيا ليس لها دول مركز، والسبب هو الاستعمار الغربي الذي كانت تخضع له. وهو الأمر الذي يطرح مشكلة بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، وفق إحالة أن الإسلام هو عبارة عن “وعي دون تماسك”، نظرا لأن :” الإسلام مقسم بين مراكز قوى متنافسة يحاول كل منها أن يفيد من توحده الإسلامي بالأمة لكى يحقق بذلك تماسكاً إسلامياً تحت قيادته”، وعليه يشكل غياب دولة مركز إسلامية عاملا مساعدا وأساسيا”على الصراعات الخارجية والداخلية المستمرة التي تميز الإسلام”، كما أنه يضيف هنتنغتون:”مصدر ضعف بالنسبة للإسلام ومصدر تهديد للحضارات الأخرى”. وفي سؤال عن احتمال أن تستمر الحال هكذا، يوضح بأنه يتعين على دولة مركز إسلامية :”أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمة”، وهو لهذا التحديد يعيِّن ست دول يرشحها كي تكون لها الزعامة للحضارة الإسلامية، ولكن مع عدم استجابتها لدفتر الشروط هذا الذي يؤهلها للعب هذا الدور الذي يتيح لها التأثير في الدول الدائرة في فلكها. وهذه الدول هي:
1- إندونيسيا، التي هي أكبر دولة إسلامية التي تمتلك اقتصادا ينمو بسرعة:” إلا أنها تقع على حدود الإسلام بعيداً عن مركزه العربي كما أن إسلامها تشكيلة متنوعة من جنوب شرق آسيا، وشعبها وثقافتها خليط من مؤثرات وأصول إسلامية وهندوسية وصينية ومسيحية”.
2- مصر،البلد العربي الأكبر من ناحية التعداد السكاني، وهو كذلك يتعبرها كبيرةبموقعها المركزي والاستراتيجي والجغرافي المهم في منطقة الشرق الأوسط، “ولديها الأزهر: المؤسسة القائدة في التعليم الديني”، غير أن عناصر القوة هذه لم تجعلها دولة غنية (يقول أنها دولة فقيرة) حيث أنها:” تعتمد اقتصادياً على الولايات المتحدة وعلى المؤسسات الدولية التي يتحكم فيها الغرب والدول العربية النفطية”.
3- إيران، يعتبر أن:” لها الحجم والموقع المركزي وعدد السكان والتقاليد التاريخية والموارد النفطية والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي الذي يمكن أن يؤهلها لكي تكون دولة مركز إسلامية”، لكن مذهبها الشيعي (نسبة السنة المسلمين هي 90 بالمائة من نسبة المسلمين في العالم) ولغتها الفارسية (التي تأتي بعد العربية بمسافة بعيدة) وأيضا قوميتها، هي عوامل صنعت بونا شاسعا مع بقية الدول الإسلامية بعلاقة تتسم بالعداء مثلما يصفها.
4- باكستان، هي أيضا دولة كبيرة لجهة عدد السكان والقدرة العسكرية، ويرى هنتنغتون:” أن زعماءها قاموا بدور مستمر للدعوة إلى التعاون بين الدول الإسلامية ويتحدثون للعالم باسم الإسلام”، ثم يلحق استدراكا بأنها بلد فقيرنسبيا ويعاني: “من انقسامات إثنية وإقليمية خطيرة في الداخل، ولها سجل من عدم الاستقرار السياسي”، وكذلك يؤثر عليها بشكل سلبي علاقتها المتوترة مع الهند.
5- السعودية، لها وضعها الخاص باعتبارها بلد الحرمين الشريفين وبما حباها الله من ثروات كبيرة، ولكن عدد سكانها الصغير نسبيا وعدم حصانتها جغرافيا هما عاملان أثرا على قرارها السياسي وجعلاها تعتمد على الغرب من أجل أمنها.
تركيا، هي الدولة التي تستوفي أكثر معايير هنتنغتون كي تتبوأ المكانة التي يفترض أن تتبوأها دولة مركز، فهو يرشحها لذلك. وقد كتب عنها في أكثر من موضع من هذا الكتاب، عن العقبات التي تحول دون أن تصبح دولة أوروبية بالكامل بل قل رفضها، منها ما يخص “قلة احترامها لحقوق الإنسان” والسبب الأهم لهذا الرفض هو لكونها وبكل بساطة دولة إسلامية. ثم أيضا قدراتها المحدودة في أن تلعب دوراً مهماً بالنسبة للجمهوريات الناطقة باللغة التركية في الاتحاد السوفيتي السابق. كما يركز على الدور السلبي للإرث الأتاتوركي الذي يجعل الصراع محتدما بين ماضي ومستقبل تركيا وبالتالي يجعلها دولة ممزقة. ومن مؤهلاتها يتحدث هنتنغتون عن تاريخها “وعدد سكانها والمستوى المتوسط منالنمو الاقتصادي والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية والكفاءة”. يعيد التحدث عن عائق تركيا الأهم بالنسبة للعالم الإسلامي، العلمانية. فيخلص إلى أنه:” طالما أن تركيا سوف تستمر في تعريف نفسها كدولة علمانية فلن تكون لها زعامة الإسلام”. ثم يسعى إلى البحث عن مخرج يمكن أن تسير فيه لكي تستفيد من مؤهلاتها، فيطرح السؤال التالي:” ولكن…ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟”. فتتخلى عن استجداء أوروبا من أجل عضوية اتحادها بأن تستأنف:”دورها التاريخي الأكثر تأثيراً ورقياً كمحاور رئیسي باسم الإسلام، وخصم للغرب”. هذا الطريق كان قد توعاه في ذلك الوقت رئيس وزرائها تورغوت أوزال (للفترة ما بين 1989 و1993) الذي استرجع بعضا من تاريخ تركيا الإسلامي (الأصولي وفق مفهومه) مشيرا إلى أن تركيا في عهده بذلت:” جهوداً ضخمة لتوحيد نفسها بالعالم العربي وأفادت من العلاقات العرقية واللغوية لتلعب دوراً متواضعاً في آسيا الوسطى وقدمت الدعم والتأييد لمسلمي البوسنة”، ليطرح احتمال أن تتخلى عن العلمانية:” وبالتالي تحول نفسها من دولة منبوذة في حضارتها، إلى دولة زعيمة لها”، ليختم ما تعلق بهذه الشروط بقوله:” ولكنها لكي تفعل ذلك، لابد لها من أن تتخلى عن تراث «أتاتورك» وعلى نحو أشمل مما تخلت به روسيا عن تراث لينين”، كما يتعين عليها أيضاً أن تجد زعيماً بحجم «أتاتورك» يجمع بين الدين والشرعية السياسية ليعيد بناء تركيا وتحويلها من دولة ممزقة إلى دولة مركز”. ذلك ما سعى إليه ونجح فيه باقتدار طيب أردوغان لاحقا ابتداء كرئيس وزراء ثم رئيسا لتركيا، حيث نجح في جعل بلاده قوة اقتصادية كبيرة وأستعاد موقعها ضمن الجماعة الإسلامية وربطها أكثر بالعالمين العربي والإسلامي. ولكن سياسته اتجاه سوريا وليبيا وعلاقاته الوطيدة بجماعة الإخوان المسلمين جعلته يكون في موضع العداء والريبة، فأثرت سلبا على طموح تركيا على دورها الريادي.