بقلم: د. جمال بلعربي
تحية لكل الأعوان الإداريين الساهرين على تطبيق القانون، بعيدا عن تسجيلات الفيديو الموجهة للنشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، فنحن نؤمن أن إدارة الشأن العام لا يمكن أن تتحول إلى مادة لجمع التفاعلات الرقمية. ومثلما أصبح القانون يمنع نشر الوقائع العشوائي من باب “التشهير”، يفترض في الأعوان العموميين هم أيضا الإقلاع عن نشر، أو الامتناع عن الموافقة على نشر، تسجيلات الفيديو التي تلتقطها عدسات تمر “بالصدفة” بمكان المعاينة التي كثيرا من يرافقها نوع جديد من التنمر تحت حماية القانون، أو لنقل حماية تفسير معين للقانون. فالمواطن، حتى أثناء مخالفته للتنظيمات المكتوبة، من حقه أن يتمتع باحترام القانون الذي نطالبه باحترامه، وأن يتمتع بما يضمنه له القانون من الحماية – خاصة من استهزاء أعوان المصالح والإدارة العمومية وسخريتهم، حتى لو كانوا بدرجة وال أو أعلى – وأن يتمتع في جميع الظروف بالحق في التقاضي العادل. يجب أن نتحرر من عقدة الطهورية الزائدة والتعسف في استعمال الحق في تطبيق القانون. فتطبيق القانون ليس أداة للانتقام أو تصفية الحسابات وإنما أداة لترقية روح المواطنة بالحوكمة العادلة.
أما عن الصرامة في تطبيق القرارات، المتعلقة بتسعيرة فنجان القهوة مثلا، فنعتقد أنها، ولكي تصبح فعالة وذات معنى، يجب أن تبدأ أولا بصرامة حقيقية في دراسة سلوك أصحاب المقاهي وفهمه ومعرفة ظروف عملهم والآليات التي تتحكم في نشاطهم المهني، بمعنى أن التنظيمات الخاصة بهذا النشاط، كما هو الحال بالنسبة لجميع النشاطات المهنية، يجب أن تُصاغ بمشاركة نقابات المهنيين – النقابات الحقيقية وليست التنظيمات المتشكلة بالتجاوزات، و”التخياط”، بهدف شم بعض من روائح ميزانيات الوسائل العامة، أو من أجل “التقرب من ذوي التجلة والشان”، حسب التعبير الخلدوني. لقد ورثنا عن نظام الحزب الواحد ثقافة المنظمات الجماهيرية، والتي لم تكن حرة ولا ديمقراطية ولا تمثيلية، ولا شريكة في بلورة السياسات، بل كانت أداة إيديولوجية تابعة للمصالح الإدارية حسب التصور المعلن آنذاك حول تنظيم إدارة الشأن العام والمدون في المواثيق الرسمية لجميع الأنظمة الواحدية؛ وكانت مهمتها المبايعة والتصفيق ورفع شعارات التأييد المطلق.
هذه التركة بقيمها التي تجاوزها الزمن تخنق الوظيفة التمثيلية للنقابات وتعطلها، وتجعل الصرامة الإدارية في تطبيق القوانين تبدو وكأنها نوع من التنمر، الذي كثيرا ما يتضامن المواطنون ضده، بما فيهم الذين تهدف الصرامة إلى حمايتهم. وذلك بكل بساطة لأن هؤلاء أقرب إلى المهنيين، وأدرى بظروفهم. أما تصريحاتهم العشوائية المنتقدة للمهنيين عبر المنصات فهي في أغلب الأحيان مجرد مسايرة للموجات ومحاولة ركوبها، وبالتالي لا يمكن أن تكون مرجعا لبلورة السياسات، ناهيك عن أن تكون مؤشرا لترشيح الإطارات وموظفي مناصب المسئولية.
كما أن الصرامة – بأسلوب يكشف أنها جديدة على من يمارسها – في مراقبة توزيع المواد الغذائية المدعمة غالبا ما تتحول إلى مجموعة من التصرفات، كي لا نستعمل نعوتا أكثر قسوة، نكتفي باعتبارها متناقضة. فنلاحظ أن بعض المواد المدعمة تفقد الحق في هذا الدعم تلقائيا عند تحويلها واشتقاقها أو إخضاعها لأية عملية صناعية، مع العلم أن لا شيء يتغيّر في قيمتها الغذائية ولا في درجة إقبال المستهلك عليها، أي أنها من المواد الأساسية التي يطلبها المستهلك حتى وهي في شكلها المشتق. فالمشرع يمنع استعمالها الصناعي عندما تكون مدعمة ويحرص على أن يتم استهلاكها مباشرة، في شكلها الخام كي تستأهل الدعم. وكأنه يريد من المواطن إذا أراد الاستفادة من دعم تلك المواد أن يستهلكها بكيفية معينة. وهنا يُفترض في المشرع أن يغير تسميتها من “مواد مدعمة” إلى “مواد مدعمة في شكلها الخام” أو “كيفيات مدعمة”. وبذلك يتحول الدعم من دعم للمادة الاستهلاكية إلى دعم لطريقة معينة في استهلاكها. تنتابني رغبة قوية في أن أضرب مثالا ببعض المواد المدعمة مثل الحليب ذي السعر المقنن لكن أخشى من أحدهم أن “يفهمني غلط”.
للأسف، الكثير من النصوص التنظيمية للكثير من المهن أكل الدهر عليها وشرب حتى الثمالة، فأصبحت مضحكة إلى حد أن الأعوان العموميين أنفسهم يستحون من المحاسبة على عدم احترامها. وإلى اليوم، توضع نصوص تنظيمية كثيرة على طريقة “الحب من طرف واحد”. فيكتبها المشرع باجتهاده الخاص – ونحن لا نشك مطلقا في حسن النية -وحسب تخمينه الشخصي – أو بتوجيهات شعبوية مرتجلة – ولذلك عند النزول بها إلى الميدان يستحيل تطبيقها. وفي أحسن الأحوال يكون تطبيقها بمثابة فتح باب جديد للمراوغة. فهل نضرب على ذلك مثالا بالتسعيرة القانونية للخدمات الطبية، وما يقابلها من ممارسات على أرض الواقع؟.
كتبت في مثل هذه الزاوية، مرارا وتكرارا، بأنه من المحزن أن نرى التجار، حملة الاقتصاد الوطني على أكتافهم، الذين يبدأ يوم عملهم أحيانا على الرابعة صباحا وقد لا ينتهي إلى غاية العاشرة مساء، والذين يحرمون أنفسهم وأسرهم من العطل الأسبوعية ومن الأعياد وأحيانا حتى من العطل السنوية والعطل المرضية، والذين يضع المشرع نفسه القوانين تلو القوانين لدعمهم وتشجيعهم وحمايتهم، من المحزن أن نراهم كلما اقترب شهر رمضان، يتحولون في نظر الإعلام غير المهني، وبعض المسئولين، إلى كائنات “جشعة” تجب محاربتها. ولا أحد يتذكر شاحنات الخضر وغيرها من المواد الاستهلاكية التي يصادفها منقلبة في الطرقات، ولا يهتم بسبب انقلابها، ولا يعرف أن بعض أصحابها قد يكون حرم نفسه من النوم من أجل المحافظة على رزق أسرته، أو استكثر على سيارته قطعة غيار أصلية، مفضلا تدوير رأسماله في تجارته، فتكون الكارثة. إن كل ما يهمنا من التجار، كمستهلكين، هو أن يعاملونا كأمراء، دون أن نتصرف معهم بأخلاق الأمراء وسخائهم. وعند أوّل منعطف ننعتهم بالجشعين.
يجب علينا الخروج من قوقعة التجريم المجاني، عبر التصريحات القاسية، والتي تدخل أحيانا تحت طائلة القانون، في غياب النقابات المهنية الحقيقية، والتوقف عن الكيل بمكيالين؛ إذ من المخزي أن يقوم وزير بجلالة قدره بالترويج لعلامة تجارية خاصة، في تصريحاته أمام الإعلام غير المهني، وفي الوقت نفسه يتهدد خصوما مبهمين ويتوعدهم بالصرامة في تطبيق القانون، والمشكلة أنه لا ينتبه أساسا إلى أنه يحطم القانون تحطيما عندما يستعمل وظيفته العمومية للإشهار المجاني لمؤسسة ربحية خاصة على حساب المؤسسات المنافسة لها. ومرة أخرى، من المخزي أيضا أن يصبح تطبيق القانون وسيلة للتهديد. ففي مثل هذا المقام يجب أن يكون تطبيق القانون مناسبة للفخر وتقديس العدالة، واحترام سيادة الشعب الذي تكتب القوانين باسمه.
نعم، تحتاج السياسات الجديدة والجريئة، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها صعبة، وحساسة، إلى حملات إعلامية احترافية تُعدّ الرأي العام لاستقبالها والانخراط في سيرورتها والمشاركة في إنجاحها. لكن هذه الحملات لا يرتجلها المسئول الذي اعتاد مستشاروه على الموافقة على جميع اقتراحالته “العبقرية” دون أي تعليق محافظة على المنح السخية وامتيازات المناصب. وإنما يقوم بإعدادها مهنيون محترفون. وهنا بطبيعة الحال لا حرج في أن يكون التيك توك من الوسائل الذكية لإنجاح الحملة الإعلامية إلى جانب وسائل أخرى، منها تدخل المسئول شخصيا بعبارات مدروسة وبطريقة إلقاء مناسبة للمقام، مع احترام جميع الضوابط التنظيمية للمهنة.