الدكتورعزالدين معزة
يوجد سؤال آخر يسبق السؤال المتعلق بالموافقة أو التخويل او التوقع، وهو السؤال المتعلق بما يجب علينا أن نتوقعه أو نريده او نسمح به، وما يجب علينا أن نلتزم به من مبادئ. إنه السؤال القائل: هل يجب على السياسيين -بأثقل ما تحمل كلمة “يجب” من معنى-أن يلوّثوا أيديهم؟ إن كان السياسيون على حق (في ظروف معينة شديدة التطرف) أن يلوّثوا أيديهم وكانوا على حق في فعل ذلك بالنيابة عنّا، عندها يجب على الأقل اعتبار من يوافقون منا على ذلك مشاركين في الفعل، ويتحملون قدرًا من المسؤولية. فنحن لسنا مجرد أشخاص تدنسوا بهذه الأفعال، بل تواطأوا عليها.
إن التشديد على فكرة الذنب المشترك بين الزعماء والمواطنين يثير مشكلة أخرى، تتعلق بالكيفية التي ينبغي بها معاملة مرتكب الفعل القذر بعد انتهاء الأزمة. يعترض والزر على الذنب الذي نحملّه للسياسي قائلًا بأن هذا يعني أنه يجب أن يُعاقب أو يوصم بالعار لأنه فعل ما أردنا “نحن” منه أن يفعله.
وقد اتفق الكثيرون مع وجهة النظر هذه، إلا أنها تعرضت للنقد من آخرين كتامارمايزلس ونيل لافي. يتضمن الادعاء القائل بمعاقبة أو التشنيع على صاحب الأيدي القذرة، الذي اضطر إلى فعل أمر غير صائب من الناحية الأخلاقية، مشاكل جدية، تدور هذه المشاكل حول المسؤولية الأخلاقية. فبعد كل شيء، إن كانت المسؤولية الأخلاقية تشترط أن تتوفر حرية التصرف أولًا كي يكون اللوم ممكنًا، فهذا يعني أنه لا يمكن إدانة أو لوم صاحب الأيدي القذرة الذي فعل ما هو ضروري وصائب بدرجة ما (تبعًا لظروفه في ذلك الحينإن ما ذكر أعلاه لا يدور حول صواب إلقاء اللوم من عدمه، بل على فكرة أن جميع المواطنين مساهمين في الفعل القذر ومع هذا فالمدان واحد، إذ ليس من العدل أن نلوم شخصًا واحدًا على ذلك حتى لو كان اللوم في محله، بل إنه يُعد موقف ازدواجي بامتياز. ففي حين أننا جميعًا نحصل على النهاية السعيدة بفضل الجرم الضروري -إن صحّ التعبير-الذي اقترفه وكيلنا الأخلاقي، يحصل هو على نهاية وخيمة كالنبذ أو ما هو أسوأ منه. كما رأينا سابقًا فإن والزر يرى أنه بعد معاقبة الزعيم صاحب الأيدي القذرة ستتلوّث أيدينا كذلك (يبدو أنه لا يرى أن ما يجعل أيدينا قذرة هو تخويلنا للزعيم منذ البداية بأن يتصرف نيابة عنا). ومع إن والزر لم يشرح رأيه بالتفصيل، إلا أنه كان كافيًا لفتح أبواب الجدل. فيمكن القول بأننا نلوث “أيدينا” حينما نعاقب هؤلاء الوكلاء، وذلك لأنهم بشكل ما يُعدّون “أبرياء” أو على الأقل لا يستحقون العقاب لأنهم فعلوا “الصواب”. وبالتالي نستحق العقاب بدورنا، فيقودنا هذا إلى افتراض يعود بنا بصورة عجيبة إلى نقطة البداية في هذه المشكلة، وهو الافتراض القائل بأن “علينا” الآن تحميل أنفسنا ذنبًا إضافيًا وهو ذنب معاقبة ذواتنا، لأن عقابنا لها كان فعلًا صائبًا ولكنه غير أخلاقي، وهلم جرا. يبدو أن توزيع المسؤولية بين الحكام والشعب لا يفعل شيئًا سوى أنه يزيد من المشاكل المتعلقة بالترابط المنطقي للمفهوم.
إن فكرة الذنب أو العار المشترك تثير تساؤلات أخرى، حول تحمّل كل من المواطنين الديمقراطيين وقادتهم مسؤولية معالجة الكارثة التي حلّت بضحايا قرار الأيدي القذرة. يناقش ستيفن دي فيزي-Stephen de Wijze(دي فيزي، 2018) ذلك بقوله إن ما يقع على عاتق القادة ليس تبرير قرارهم لمن انتخبوهم وحسب، بل أنهم والمواطنين الديمقراطيين معهم مسؤولون عن تعويض الضحايا عن الأذى “الضروري” الذي لحق بهم، نتيجة قرار الأيدي القذرة. ويؤمن دي فيزي بأنه على الرغم من اشتراك المدنيين في هذا القرار إلا أن أيديهم تبقى أقل تلوّثًا من أيدي قادتهم؛ ومع ذلك فهم ملزمون بتعويض ضحايا ذلك القرار. ويقول إن على جميع المواطنين حتى أولئك الذين عارضوا القرار أن “يتحملوا العبء الأخلاقي، وأن يساهموا في الإصلاح”. لذا عليهم أن يدفعوا “بعض الغرامات” ربما على شكل زيادة في الضرائب من أجل دفع هذه التعويضات.
يوجد قدر من المعقولية في الادعاء القائل بأن حتى أشرس المعارضين الديمقراطيين ملزمون بتأدية بعض المهام الإصلاحية والواجبات الأخلاقية، كنتيجة لسلوك قادتهم ذوي الأيدي القذرة. ولا حاجة حتى ندعم هذا الادعاء أن نلجأ إلى الامتدادات المشوشة -كما رأينا-لفكرة الذنب المشترك أو التلوث الأخلاقي المشترك. تخلق العضوية داخل مجتمع سياسي ديمقراطي (أو حتى في بعض المجتمعات غير الديمقراطية) مجموعة من العلاقات تحمل كل واحدة في داخلها شكلًا من أشكال الهوية، كشعور القادة والمواطنين بدرجة من الفخر المشترك حيال القرارات الجيدة، وبدرجة من العار والاغتراب تجاه السيئة منها. إن كل ما ذكر أعلاه لا يعني أن المعارض مسؤول بأي حال من الأحوال عن هذه القرارات، لكنه يعني أن يتحمّل مسؤولية خاصة تتمثل في نقد القرارات بما في ذلك قرارات الأيدي القذرة التي يعارضها؛ وأن يبذل ما يستطيع من جهد في سبيل إصلاح الأضرار الناتجة عنها بغض النظر عن مدى تلوّث يديه. إذ ينبغي التمييز بين المسؤولية عن الأفعال السيئة والمسؤولية عن الإصلاح والتعويض عن هذه الأفعال، مع أن تحديد الخط الفاصل بين هاتين المسؤوليتين أمر معقد.
قضية الإطلاق
إن كلًا من الأيدي القذرة والمعضلات الأخلاقية يرفضان فكرة أن بعض المحظورات الأخلاقية أو ما يسمى بالواجبات السلبية تكون “مطلقة”، ولكن لكل منهما طريقته في الرفض. إن أنكرنا وجود محظورات أخلاقية تبقى قائمة مهما كانت الظروف، عندها سيكون تجاوز المحظورات الأخلاقية العميقة شرعيًا في بعض الظروف. في الواقع فإن العديد من النظريات الأخلاقية المعاصرة إلى جانب النفعية، تصر على أن إمكانية تجاوز المحظورات الأخلاقية تبقى دائمة. فعلى سبيل المثال، تصر النظرية الحدسية-The intuitionismلويليام ديفيد روس-W. D. Ross وأتباعه على أن جميع الواجبات والالتزامات هي بدهية (أي واجبات الوهلة الأولى)؛ ما يعني أنه يمكن للواجب البديهي الخاص بعدم قتل الأبرياء أن يتعارض مع واجب بديهي آخر، كرفع مستوى الرفاهية أو واجب الحاكم بأن يحافظ على الدولة أو أن يحمي المجتمع. عندها سيكون واجب المرء الحقيقي هو وزن كل من الواجبين البديهيين المتعارضين لمعرفة مدى ثقلهما. وبالتالي قد يرى شخص أن مسألة الأيدي القذرة ما هي إلا نسخة من هذه الرؤية، فهي تقول بأن ما يوضع في كفة الميزان الثانية مقابل الواجبات البديهية شديدة الأهمية، يجب أن يكون ذا وزن هائل كي يستطيع ترجيح كفة الميزان لصالحه. باستخدام مصطلحات توماس ناجل-Thomas Nagel فإن الأيدي القذرة ستمثّل هنا ما سماه بــ “عتبة الأخلاق الواجبة” حيث ستكون عتبة بعض الأفعال مرتفعة جدًا. وحتى ينجح استيعاب سيناريو الأيدي القذرة ضمن الأخلاق الواجبة يجب أن نجعل هذا السيناريو مقبولًا، وذلك لأنه سيكون جزءًا من الأخلاق العادية أو المألوفة عوضًا عن كونه سيناريو أخلاقي خاص بحالات الطوارئ، ولأنه لا مجال في عتبة الأخلاق الواجبة او ما يسمى بــ “الاستثناء المتوازنلفكرة أن الفعل خاطئ وصحيح في الوقت ذاته. إذ قد يشعر شخص ما بنوع من الندم إن هو لم يستطع تجنب فعل خاطئ بديهيًا، لكن في المقابل لن يكون الفعل خاطئًا إن هو وازن بين الأفعال بضمير (سيكون من المريح أكثر إن لم تتعارض الواجبات البديهية مع بعضها البعض وبالتالي لن توجد مشكلة). وبالطبع فإن من يقوم بالاستثناء المتوازن سيقرّ أن بعض الأفعال البديهية أقوى من غيرها وبالتالي تكون معارضتها أشد وطأة وأكثر ثقلًا مما سواها. إن هذا الإقرار أساسي في عملية الموازنة كونها ستفقد الهدف من وجودها إن لم توجد فروقات في الأوزان بين الواجبات البديهية. لكن تظل الحقيقة هي أن رفع الحظر على قتل الأبرياء (أي منح الاستثناءات) هو جزء طبيعي بل وروتيني من عملية الموازنة بين الواجبات الأخلاقية لاستخراج الواجب الأسمى، الذي لا يمكن رفع الحظر عنه. فإن انتهت عملية الموازنة بين الواجبات البديهية إلى نتيجة مفادها أن قتل الأبرياء عمدًا مقبولًا أو واجبًا من الناحية الأخلاقية، عندها لا يمكن أن يُعد هذا الفعل خاطئًا أخلاقيًا.
في الحقيقة توجد هنا مقارنة مثيرة للاهتمام مع مذهب المنفعة. إذ كما رأينا سابقًا أنه من الشائع اعتبار النفعية مضادة للاستثناء المتوازن أو لعتبة الأخلاق الواجبة، وإظهار الأيدي القذرة على إنها شكل من أشكال الأخلاق الواجبة (أو الجوهرية [أي المرادة لذاتها]) والتي تخضع لنفعية الحالات المتطرفة. لكن قد يُفسح المجال لاستيعاب صورة نفعية لعتبة الأخلاق وللأيدي القذرة كذلك. فمثلًا تقبل الصور الأكثر تعقيدًا للنفعية كنفعية القاعدة أو النفعية غير المباشرة، حتمًا بالفكرة القائلة بأنه لا يمكن تجاوز الواجبات والفضائل بالحسابات النفعية العادية، إن كان تجاوزها سيؤدي إلى نتائج ضارة؛ إلا في الظروف العصيبة أو حالات الطوارئ “القصوى” التي يكون فيها الضرر الناجم عن الالتزام بهذه الواجبات أو الفضائل أكبر بكثير من نفعه. لذا وفقًا للحسابات والحقائق التجريبية يمكن للنفعية أن تسمح بوجود العتبات وحالات الطوارئ القصوى وحتى الأيدي القذرة داخلها. تعطينا هذه الفكرة صورة نفعية عن عتبة الأخلاق الواجبة لكنها لا تعطينا صورة نفعية عن الأيدي القذرة. وذلك لأن تجاوز المحظورات في النفعية (وفي عتبة الأخلاق الواجبة كذلك) في حالات الطوارئ القصوى يُعد قرارًا صائبًا فقط، وليس قرارًا صائبًا وخاطئًا في نفس الوقت. المعنى الوحيد الذي يمكن أن يبقى فيه القرار خاطئًا هو شبيه بذلك المنسوب لروس ، بأنه لولا وجود حالة الطوارئ القصوى لكان التجاوز خاطئًا. بالنسبة للنفعية (وبالنسبة لروس أيضًا) فإن هذا القرار خالٍ من أي شوائب أخلاقية عالقة ما عدا شعورًا بقليل من عدم الارتياح.
..يتبع