الدكتور عزالدين معزة
إن وجود الشوائب الأخلاقية العالقة وما تسببه من تأنيب الضمير يدل على أن الأيدي القذرة تدفع ضريبة مخالفتها للمطلقية الأخلاقية. ومع إن منظري الأيدي القذرة يرفضون الأخلاق المطلقة إلا أنهم لا يزالون واقعين تحت سيطرتها بالنظر للأهمية التي يعطونها لبعض القيود الأخلاقية. ولكن كيف نقرر ما إذا كان ينبغي رفض المطلقية الأخلاقية أم لا؟ ويصعب بنفس القدر إيجاد حل للنزاع القائم بين مؤيدي الأخلاق المطلقة وبين غير المؤيدين لها. لا يقول مؤيدو الأخلاق المطلقة بأن جميع المحظورات الأخلاقية مطلقة؛ بل أن بعضها كذلك، كالمحظورات المتعلقة بتجريم القتل المتعمد للأبرياء، والاغتصاب، والتعذيب (عند بعض المنظّرين). أما خصومهم فيدّعون بأن حتى هذه المحظورات يمكن أن يقبلها “حدسنا” على إنها شرعية في حالات الطوارئ. إن مؤيدي الأخلاق المطلقة لا يعتبرون حالات الطوارئ محض خيال (كما هي حقيقة البعض منها)؛ بل كل ما في الأمر أن لحدسهم رأي مختلف فيما يتعلق بمدى تطرف هذه الحالات. كما إنهم يستطيعون لفت الانتباه إلى حقيقة أن أغلب المنظّرين الأخلاقيين بما في ذلك خصومهم هم في واقع الأمر يؤيدون المطلقية في بعض القضايا الأخلاقية. فعلى سبيل المثال لا يسمح النفعيون بأي استثناءات -تحت أي ظرف- لقاعدتهم الأساسية في تعظيم النتائج المُرضية، كذلك فإن التعاقدية الرولزية [نسبة إلى جون رولز- John Rawls] تعطي أولوية مطلقة لبعض المبادئ المتعلقة بالحرية، وينطبق هذان المثالان على بقية النظريات الأخلاقية التي تعارض المطلقية في العادة. قد يُرد على ذلك بأن نظرية الأخلاق المطلقة تُطبق في مستوى مختلف عن باقي النظريات، وهذا صحيح كون أن الإطلاق فيها يخص محظورات موجودة في الواقع كالقتل والتعذيب؛ في حين أن النظريات الأخرى تستخدم الإطلاق في مستويات أكثر تجريدية. لكن لِم قد يُعد ذلك فرقًا مهمًا أصلًا، وإن كان كذلك، فلِم الافتراض بأنه يعارض نظرية الأخلاق المطلقة. ففي نهاية المطاف، من المعقول أن تكون رؤيتنا للقتل أو التعذيب على إنها أعمال خاطئة دائمًا مقنعة أكثر من أي اعتقاد آخر يرى أن الأولوية الدائمة هي لتحقيق أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس، أو أن الأولوية الدائمة هي للخيارات المعززة للرضا. ويبدو أيضًا أن بعض المحظورات الأخلاقية المحددة -كالمبدأ القائل بأنه من الخطأ تعذيب طفل بريء من أجل المتعة-لا تتأثر بأمثلة خيالية مضادة لها، ولكن علينا ألّا نقلل من قدرات الفلاسفة على الإتيان بأمثلة مضادة عجيبة تبيح ذلك. من الواضح أنه لا يزال هنالك الكثير من الكلام الذي لم يقال حول طبيعة المطلقية الأخلاقية، والتي يمكن أن يؤخذ منها ويرد عليها. لكن على الأقل كان لنقاشنا عنها فائدة، تتمثل في تسليط الضوء على أهمية المحظورات المطلقة في صياغة سيناريوهات الأيدي القذرة.
كان موقف والزر من مسألة الإطلاق (كما يجب أن يكون) هو الرفض باحترام. فيقول: “في اعتقادي لا يمكن تبرير الإرهاب أبدًا. ومع ذلك فأنا لا أريد الدفاع عن الحظر المطلق. لم أجد يومًا الموقف الأخلاقي الذي يقول {أقِم العدل حتى لو سقطت السماوات} معقولًا. بعد أن يدّعي والزر بأن المطلقية “قديمة جدًا، ربما أقدم من أي شيء يتعلق بفهمنا للأخلاق”، يقول في موضع آخر، أنه عندما يصل الوضع إلى كارثة أو إلى حالة طوارئ قصوى “فإن المحظورات المطلقة تمثّل، في نظري، رفضًا للتفكير بما يعنيه سقوط السماوات. يمكن بلا شك تصوير هذا الرفض على أنه موقف غبي، لكن لو حاولنا استخراج نظرة معاصرة “لسقوط السماوات”، ربما ستخطر على بالنا مسألة التعذيب، وهي من أوائل القضايا التي ضربها والزر كمثال يستدعي الأيدي القذرة. لقد أثار التقبل السهل بين المفكرين عقب أحداث 11 أيلول-سبتمبر، 2001 لمسألة اللجوء إلى التعذيب في حالات الطوارئ -والتي كانت غالبًا أقل من أن توصف بـ “القصوى” -تساؤلات عديدة حول ما إذا كانت المطلقية لا تزال قابلة للتطبيق، وقد أثيرت حتى من جانب أولئك الذين أيّدوا الأيدي القذرة في السابق أو دعموا استثناءً من أي نوع. فقد كان هنري شو-Henry Shue مثلًا معارضًا للتعذيب على الدوام، ومع ذلك فقد ورد في مناقشته الأصلية للمسألة بأنه قد يسمح بالتعذيب في ظروف “متطرفة” محددة. غير أن شو وفي مقال حديث له، ينتقد رأيه السابق وجميع الآراء المشابهة والمنتشرة بين المفكرين، التي تقبل التعذيب في الظروف المتطرفة، كحل أخير يلجؤون إليه ولكن ليس هنا -بحسب تعبيره- بل في “أرض الأحلام” ويعني بذلك أن جميع سيناريوهات الفلاسفة التي تدور حول “القنبلة الموقوتة” هي حبكات خيالية تبعدنا عن حقيقة الحكم الأخلاقي في العالم الحقيقي. يعتبر موقف شو الآن من الناحية العملية موقفًا حازمًا ومطلقًا. وبالمثل فقد التزم الآخرون بنوع من المطلقية فيما يتعلق بالتعذيب. فيقدم بوب بريشر-Bob Brecher مثلًا، نقدًا لسيناريو القنبلة الموقوتة (السيناريو الذي يستخدمه والزر في مقاله الأصلي عن الأيدي القذرة) ويؤيد، من منظور عواقبي صرف، الحاجة إلى إدانة مطلقة للتعذيب . لذا فإن الجدل القائم حول التعذيب والذي تولد جزء كبير منه من “الحرب على الإرهاب”، قد أحيا الاهتمام بقوى الحكم الأخلاقي المطلق وضرورته، مع إن الكثير حول طبيعة هذا الحكم وأنواعه بحاجة إلى توضيح. على أي حال، يوجد سبب واضح للتعامل مع مشكلة الأيدي القذرة بدرجة من الشك، يتعلق هذا السبب بحماس السيدة كاربوري لــ “المجازفة النافعة” وازدرائها لمن يقيسون الأشخاص الاستثنائيين بــ “المعيار العادي” الذي يناسب بقيتنا.
في مجادلته للفلسفة النفعية، روى برنارد ويليامز، الفيلسوف الإنجليزي، قصة رجل اسمه «جيم»، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأميركي. في الساحة الرئيسية للقرية، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لإعدام 20 هندياً، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة، الذي رحب به كأجنبي شريف، وعرض عليه أن ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى، شرط أن يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط أنه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.
طبقاً للمفهوم المبسط لفعل الخير في الفلسفة النفعية، يتوجب على جيم أن يقتل أي شخص فيهم، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لأكبر عدد من الناس، حتى لو تضرر أحدهم أو عدد قليل منهم.
أورد ويليامز هذا المثال، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس، من دون تأمل أو قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصاً، فيما لو تمسك بأخلاقياته الأساسية، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه – في المقابل – يسأل نفسه: هل من الصواب أن يقتل شخصاً لا يعرفه أو ربما لا يستحق القتل؟
هذا سؤال قد يطرح بمفرده، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه للشخص الفاعل، أو يوجه للأسرى العشرين.
– حسناً، ما موقفك عزيزي القارئ، لو كنت في موقع جيم؟
تأمل في موقف الطرف المتضرر، باعتباره إنساناً مثلك، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب، وكان على شخص آخر أن يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الأشخاص؟
دعنا نأخذ مثالاً أكثر قسوة: افترض أنك دخلت المستشفى، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا، وإلا فسوف يموتون. أنت سليم الجسد، ولديك هذه الأعضاء جميعها: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية أجزاء جسمك، لتزرع في أجسام المرضى الآخرين؟
هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: إذا كان بقاء العشرة أشخاص أولى من بقاء شخص واحد، فإنه يتوجب على طاقم المستشفى أن يأخذوك فوراً إلى غرفة العمليات، كما يجب عليك أن تقبلها بطيب خاطر. أما لو اعتبرت هذا الفعل غير أخلاقي، فعليك أن تتحمل وفاة العشرة أشخاص، من دون أن تشعر بالذنب.
هذه المعضلة عالجها مايكل والزر، الفيلسوف الأميركي الذي نشر في 1973 مقالاً عنوانه «الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة». وتبنى موقفاً مقارباً للموقف النفعي، لكنه قدم تصوُّراً مختلفاً.
أثارت مقالة والزر جدلاً كبيراً، وتحولت إلى نص مرجعي في أخلاقيات الفعل السياسي، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر إنه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير أخلاقية صارمة، صحيحة، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني أفعال مفزعة، يبررونها بما يترتب عليها من إنجازات ضرورية وكبيرة.
هذه الرؤية تطرح سؤالاً ضرورياً:
– هل من الأخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة، وهل من الأخلاقي أن نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بأنها لا توصلنا لأي نتيجة، أو ربما تكلفنا خسائر باهظة؟
نفهم طبعاً أن الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقاً ضرورياً لمنع الكارثة؟
ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية، هو اعتباره فعل السياسي خطأً، وإن كان الإقدام عليه ضرورياً لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون إلى هذا الفعل باعتباره صحيحاً، ولو كان -خارج هذا الإطار – خطأً وقبيحاً.
على الناس.
أما الإسلام السياسي الذي يدين الايدي القذرة في السياسة، فلم تتح له في الحكم المدة الكافية التي تسمح له بفرض الطاعة على الناس وتمرير اختياراته المذهبية. فقد كان المحيط الاجتماعي في تونس وفي مصروفي الجزائر، غير متهيئ لقبول نظام سياسي مستبد محتكر للدين وناطق باسمه وكأن الدين ليس لله بل لبعض عباده.
والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الإسلام السياسي في هذه الدول كثيرة، منها السياسي الذي أدى إلى انتشار الإرهاب وإلى توافد الدعاة الدينيين على البلاد مبشرين بأفكار غريبة على المجتمع، وإلى انتشار الخيام الدعوية والمساجد المنفلتة التي تكفر من تشاء وتمنح الإيمانَ لمن تشاء؛ ومنها الاجتماعي الذي أدى إلى التبشير بوعود ومشاريع تنموية وهمية في الجهات المحرومة.
وعدم الاعتراف بالخطإ ورفض المحاسبة لقادته من خصائص النظم الاستبدادية التي لا يعجز قادتها عن إيجاد التبريرات للخطأ مهما يكنْ كبيرا، وفي ذلك تأكيد لمقولة إن يد السياسي لا يمكن لها أن تكون إلا قذرة.
.. انتهى
للمقال مراجع