الدكتور : عزالدين معزة
(لا أخلاق في السياسة) عبارة نسمعها كثيرا ومعظمنا يوافق عليها ويتهرب منها ، دون أن يفكر في صحتها وأهميتها ويدرك النتائج الخطيرة التي تترتب على الاقتناع بها.
لمناقشة هذه العبارة لا بد من تعريف كل من (الأخلاق) و(السياسة) وسأعرفهما بشكل مبسط بعيدا عن المناقشات الفلسفية.
الأخلاق هي ما اتفقت الشرائع السماوية والأرضية على اعتبارها صفات محمودة يجب التحلي بها. الأمانة والصدق والاحترام والتعاون والعدل والوفاء والرحمة صفات وسلوكيات لا يختلف عاقلان على اعتبارها (أخلاقية) واعتبار ضدها (لا أخلاقي) كالخيانة والكذب والإهانة والأنانية والظلم والغدر والوحشية.
أما السياسة فهي إدارة الشأن العام بما في ذلك إدارة مؤسسات الدولة وإدارة الخلافات بين مكونات المجتمع، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة وغيرها من الدول والمنظومات الإقليمية والدولية.
السياسة بهذا المعنى لها تأثير كبير في حياة الناس ومصائرهم والاشتغال بها يندرج ضمن فروض الكفاية الواجبة شرعا، وإذا كان الالتزام بالأخلاق واجب شرعي أيضا فالجمع بين الأخلاق والسياسة ليس أمرا ممكنا وحسب بل هو أمر واجب، والقول باستحالة الجمع بينهما يعني أن الله أوجب علينا الجمع بين أمرين يستحيل الجمع بينهما وهذا عبث ننزه الله عنه.
في خطبة أبي بكرٍ الصدّيق التي تمثّل الوثيقة السياسية للحكم في دولة الحكم الرّاشدي، وبعد أن بيّن أبو بكرٍ رضي الله عنه معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأسسها؛ انتقل ليعلن قاعدة من قواعد عمله السياسيّ، وقاعدة ناظمة للعلاقة بينَه وبين مَن هم تحت حكمه؛ فقال: “الصدقُ أمانة والكذب خيانة”
فيأتي كلام الصّدّيق أبي بكر رضي الله عنه ليعيد الأمر إلى نصابه في العمل السّياسيّ الرّاشد، مؤكّدا على العلاقة العضويّة بين السّياسة والأخلاق.
وعلى المسلمين جميعا، وبدرجة أساسية تلكم الجماعات الإسلاميّة العاملة في المجال السّياسي، أن تعتقد بأنّ تفوّقها الأخلاقي هو ما يميّزها في عملها السياسي وإدارتها وقيادتها للشّعوب.
كما أنَّه يغدو من الضّروري أن تستحضرَ هذه الجماعات والحركاتُ والتّنظيماتُ أنَّ الهويّة الإسلاميّة القائمة على المزاوجة بين السّياسة والأخلاق؛ هي التي تحقّق الرُّشد السّياسي وفق ما أعلنه أبو بكرٍ رضي الله عنه في بيان الحكم.
وهكذا اختصر أبو بكرٍ رضي الله عنه في أربع كلماتٍ ضمّنَها بيان الحكم المنهجَ الأخلاقيّ في السّياسة في الإسلام؛ فحيثما وجهتَ وجهك ويممت وجهتك ستجدُ أنّ “الصدق أمانة والكذب خيانة”
كان من أوائل من أصّل للفصل بين السياسة والأخلاق؛ المفكّر الإيطالي نيكولو ميكافيلي في كتابه “الأمير” الذي ألّفه عام 1513م ولم ينشر إلّا عام 1532م، بعد وفاته، هذا الكتاب الذي يعدّ اليوم “الكتاب المقدّس” للعمل السّياسي في المنظومة العلمانيّة واللّيبراليّة.
وهو صاحب العبارة الأشهر والأكثر تداولا في عالم السّياسة اليوم “الغاية تبرّر الوسيلة”، وإليه تنسب النّظريّة الميكافيلية التي تؤسّس للفصل بين السياسة والأخلاق.
وهو يؤكّد أنَّ نجاح العمل السّياسي يكون بقدر ما يحقّقه من نتائج في الواقع، مثل استقرار الدّولة والحفاظ على مصالحها، وتماسك النّظام وقوّته، مهما كانت الوسائل الموصلة إلى ذلك غير أخلاقيّة.
هل ينبغي للقادة السياسيين أن يكسروا أغلظ القيود الأخلاقية من أجل بلوغ الخير الأعظم، أو تجنيب مجتمعاتهم الكوارث؟ شكّل هذا السؤال ما عُرف لاحقًا بين الفلاسفة بــ (مشكلة الأيدي القذرة). إن خيوطًا مختلفة تنسج الجدل الفلسفي القائم حول هذا الموضوع، مردّدةً ذات التعقيدات الموجودة في الاعتقاد الشائع حول السياسات والأخلاق. ومع ذلك فكل هذه الخيوط تتضمن الفكرة القائلة بأن السلوك السياسي السليم يستوجب أحيانًا معارضة القيم الأخلاقية النبيلة. يسعى هذا المقال إلى توضيح المشكلات المعيارية الأساسية التي يثيرها شعار “الأيدي القذرة” بشأن السياسة. ابتداءً بفقرة توضيحية مأخوذة من رواية انجليزية شهيرة من القرن التاسع عشر، تقتفي المقالة آثار الأيدي القذرة رجوعًا إلى ميكافيللي، ومع هذا فإنها مدِينة بمعظم شهرتها الحالية لكتابات المنظّر السياسي الأمريكي البارز، مايكل والزر- MichaelWalzer. لقد دُرست آراء والزر، في ضوء آراء منظّرين سابقين كميكافيللي و ماكس فيبر، كما نوقشت بإيجاز مواضع غموض والتباس معينة في أسلوبه الفكري. كل ذلك يؤدي إلى طرح خمس إشكاليات،أولًا، هل إن بنية إشكالية الأيدي القذرة متناقضة ومشوشة؟ ثانيًا، هل إن كسر القيود الأخلاقية يجري ضمن حدود الأخلاق أم يتجاوزها بصورة ما؟ ثالثًا، هل يمكن لشعار الأيدي القذرة أن يبقى بأكمله محصورًا أو مختصًا بالمجال السياسي أم أنه يعبّر بنفس الطريقة عن مجالات أخرى في الحياة، وفيما يتعلق بالسياسة، هل كبار القادة هم فقط من ستتلوث أيديهم، أم إن ذلك يسري على مواطنيهم أيضًا؟ وهذه هي الإشكالية المتعلقة بنطاق الأيدي القذرة. رابعًا، كيف يمكن وصف الظروف التي تستدعي اللجوء إلى تلطيخ الأيدي؟ خامسًا، توجد صلات تربط بين إشكالية الأيدي القذرة وبين الإشكاليات الناشئة عن معضلات أخلاقية؛ لكن السؤال هو: هل ينبغي لأوجه الشبه تلك أن تغطي أوجه الاختلاف الهائلة بينهما؟
مع إن مبدأ الأيدي القذرة يرجع إلى زمن ميكافيللي، إلا أنه مدين بانتشاره الحالي للمنظر السياسي الأمريكي مايكل والزر، والذي دعاه بالأيدي القذرة في مقال مهم له بعنوان “النشاط السياسي: مشكلة الأيدي القذرة”، وصاغ في هذا المقال مصطلح “الأيدي القذرة” مقتبسًا إياه من مسرحية لجان بول سارتر تحمل نفس الاسم. فيما بعد استخدم والزر الفكرة لا المصطلح في كتابه حيث أوضح فيه أن ذريعة “حالة الطوارئ القصوى” لن تفسر فحسب سبب قيام قوات الحلفاء بالقصف الإرهابي للمدن الألمانية في المراحل المبكرة من الحرب العالمية الثانية بل ستبرر هذا الفعل (, وبالنسبة لهذه المراحل المبكرة، تقريبًا حتى نهاية العام 1941 (فيما يظهر لأن والزر لم يحدد سنة معينة)، فإن المذبحة المتعمّدة لآلاف الألمانيين العزّل كانت لازمة بموجب حالة الطوارئ القصوى، حتى ولو عدّت غير أخلاقية على الإطلاق. إن فكرة انتصار النازية واحتمالية تحققها كانت رهيبة بالنسبة لأولئك الذين سيواجهون الهزيمة، لفداحة ما سيلحق بقيمهم وحيواتهم من أذى بحيث إنهم رأوا أن ثمن الأفعال اللاأخلاقية الشنيعة التي حدثت كان يستحق الدفع. ثم أوضح والزر،أن القرارات التي اتخذت في المراحل اللاحقة من الحرب من قصف المدن كانت ببساطة لا أخلاقية (كما في قصف المدن اليابانية ومنها القصف الذري على هيروشيما وناغازاكي) ومن غير الممكن تبريره بحجة حالة الطوارئ القصوى. وحينما أعاد والزر النظر في موضوع حالة الطوارئ القصوى، أعلن بوضوح أنها مسألة تتعلق بالأيدي القذرة، وبالفعل يبدو أنه قد توصل إلى وجهة نظر ترى أن الظروف الطارئة والبالغة الخطورة هي فقط التي من شأنها أن تبرر أفعال الأيدي القذرة. لذا فهو يقول في المناقشة الأخيرة لمسألة حالة الطوارئ القصوى أن مذهب الأيدي القذرة يُطبق “حين يجد القادة العسكريين والسياسيين أنفسهم أحيانًا في موقف لا يمكنهم فيه تفادي التصرف بصورة تتنافى مع المبادئ الأخلاقية، حتى لو عنى ذلك قتل الأبرياء عمدًا”. ومرة أخرى فإن: “… الأيدي القذرة غير مسموحة (ولا ضرورية) إن كان الخطر الذي نواجهه أدنى من أن يهدد استمرارية المجتمع او أن يتسبب في موت جماعي…
أول ما يمكن ملاحظته بشأن ذلك هو أن تعريف كل من الأيدي القذرة وحالة الطوارئ القصوى متغيران بصورة ملحوظة عن رأي والزر، في مقالته الأصلية، ويعبّر هذا التغير عن غموض كبير يكتنف مبدأ الأيدي القذرة. إن تفسيري والزر، لمفهوم حالة الطوارئ القصوى في كتابه الحروب العادلة وغير العادلة وفي مقاله اللاحق بعنوان “أخلاقيات الطوارئ” يختلفان بعض الشيء عن بعضهما البعض من حيث المعالجة، لكن في كلا التفسيرين لا تظهر الحاجة الملحة إلى كسر القيود الأخلاقية الغليظة سوى في الأوضاع التي تنذر بحلول كارثة؛ بينما في المقال الأصلي لعام 1973، نجد ان الباعث لأفعال الأيدي القذرة كان أبعد ما يكون عن الأوضاع المتطرفة. أحد الأمثلة على ذلك وهو ينطبق على الوقت الحاضر بصورة مدهشة، يتعلق بحاجة أحد الزعماء السياسيين لتعذيب إرهابي مشتبه فيه، على أمل أن يمنع ذلك حدوث عمليات قتل بحق مئات الأبرياء. هذه الحالة هنا وبحسب كتابات والزر،اللاحقة تفشل تمامًا في الوصول إلى الحد الذي يمكن أن توصف معه بحالة الطوارئ القصوى، إذ إن الكتابات اللاحقة تصف الباعث على أنه دمار يلحق بالناس جميعًا او بطرق عيشهم أو بكليهما. لدينا مثال آخر لـ والزر، في مقالته الأصلية هذه المرة، عن سياسي ديمقراطي صالح يرشو رئيسًا فاسدًا لدائرة انتخابية، كي يزوده بالأصوات، مقابل الوعد بتسليمه عقود بناء مدرسة بطريقة غير قانونية. هنا ليس الانتهاك الأخلاقي أقل عمقًا من الحالة السابقة فحسب، بل لا تكاد تُعد حالة الطوارئ هذه “قصوى” بأي معنى كان، حتى لو سلّمنا بأنه لا بد من كسب الأصوات من أجل الفوز في انتخابات مهمة، وأن السياسي ينوي بصدق العمل بصورة جيدة في حال فوزه. في مقاربة والزر، الأولية للموضوع، استخدم مصطلح “الأيدي القذرة” بصورة تسبب بعض الالتباس، حيث كان يستخدمه في بعض الأحيان ليعني به أفعالًا لا أخلاقية صريحة؛ وفي أحيان أخرى يستخدمه للإشارة للمعنى الفني الأكثر إثارة للاهتمام والذي نناقشه هنا. لذا يقول والزر: “في عالم السياسة من السهل أن تصبح يد المرء قذرة، وغالبًا ما يكون من الصائب حدوث ذلك” ، يشير الشطر الأول من الكلام السابق إلى الميل العام للجوء إلى الأفعال اللاأخلاقية، بينما يشير الشطر الثاني أنه ليس من الصائب دائمًا فعل ذلك. وهو يميز بذلك بين المعنى الإيجابي والشرعي لكلمة “قذرة” وبين المعنى الوصفي البحت لها. أما كلمة “غالبًا” فهي تدل على الموقف الأكثر تسامحًا تجاه الأيدي القذرة، وهي على النقيض من موقف والزر اللاحق.
الجزء الأول
للمقال مراجع