فيصل شريف
ما هذا السرّ الكبير الذي يكنّه الجزائريون لعاصمتهم الجزائر؟ لماذا تحتفظ المخيّلة الشعبية بالصالحين الذين ولدوا فيها أو استقروا بها ليكونوا “حرّاسها” ؟ ما الذي تخفيه العاصمة الجزائرية من أسرار و ألغاز لا يمكن فهمها و لا حتى الوصول إليها ؟ و لما كلّ هذه الحكايات و الحكايا و الأساطير و حتى “المعتقدات” ذات الطابع و البعد الإجتماعي و الثقافي و الإيماني و الديني و حتى السياسي؟
الجزائر… هذه الأرض الأمازيغية، العربية، الإسلامية، المغاربية، المتوسطية، الإفريقية التي غزتها، جشعا في خيراتها و طمعا في جمالها و هوسا بأسرارها الكبرى، كثير من كبرى الأمم و الحضارات و الثقافات و البلدان التي سيطرت على المنطقة وعلى العالم تبعا لحقبات التاريخ. وقد كان في كلّ غارة أو غزو أو احتلال و في كل تواجد أو حكم أو سيطرة وجهة أولى واحدة هي العاصمة الجزائرية ” الجزائر”.
فلاعتبارات قتالية، جيوسياسية و استراتيجية كانت العاصمة الجزائرية بادئ القصد و أوّل المقصد بغية الوصول إلى باقي مناطق البلاد. فمن عهد الفنيقيين و الرومان إلى الإحتلال الوندالي و البيزنطي و الإسباني و وصولا إلى الإستعمار الإستيطاني الفرنسي، بعد عهدي الدول الإسلامية و الحكم العثماني، كانت العاصمة الوجهة الأولى أو على الأقلّ الهدف المنشود على مرّ كل هذه الحقبات التاريخية. كانت الجزائر العاصمة واجهة البلاد الأولى، وكانت دائما هي و كلّ البلاد على موعد مع قدر الغزو أو الاحتلال أو التواجد القصري أو التوافقي إلاّ من فترات تاريخية لها خصوصيتها. وعبر كلّ هذه الأزمنة، كان للجزائر رجالها و نساءها…أسماء صنعت الجزائر كعاصمة و الجزائر كبلد مترامي الأطراف. من إيكوزيوم إلى نوميديا ومن بلاد سيدي عبد الرحمان إلى بلاد الصلاّح ومن المحروسة إلى البهجة لم يحدث أن ركعت هذه البلاد حتى و إن طال زمن الاحتلال و السيطرة و الإذلال.
ولم يكن سيدي عبد الرحمان الثعالبي على خطأ عندما كتب مناجيا العاصمة و كلّ الجزائر: ” إنّ الجزائر في أحوالها عجب، ولا يدوم بها للناس مكروه، ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع، إلا ويُسر من الرحمن يتلوه”.من مسينيسا إلى يوغرطة و من يوبا الثاني إلى تينهنان، من بلكين بن زيري إلى الكاهنة، ومن يوسف بن تاشفين إلى لالا فاطمة نسومر، و من العربي بن مهيدي إلى جميلة بوحيرد… كتبت الجزائر تاريخها عبر الأزمنة و كانت هذه الشخصيات و هؤلاء الزعماء و الثوار حرّاس الجزائر العاصمة و حماة البلاد الجزائرية. هذه البلاد التي تغنّى بها الشعراء فقالوا فيها ما لم يقال عن مدن أخرى، ما يوحي بأنّ هذه العاصمة و هذه البلاد فيها “سرّ رباّني”، حتى أنّ أحدهم كتب بالدارجة الجزائرية :” …و أنا سرّ شايدني ليك”. وكتب آخر مذكّرا بأوليائها الصالحين:”بهجة مدينة الجزائر التايهة على البلدان، بيضة أم الهلال الناير مثل القصور و البنيان، فيها القطــــب الرباني سيـــدي عبد الرحمان”. كما وصفها عملاق الأغنية الشعبية محبوب سفر باتي ب : “بهجة محصّنة و عليها عساس…”
هذه الوقفة هي كلمة حقّ و إنصاف لمدينة الجزائر التي لم تأخذ حقّها من الإهتمام لتكون عروس البحر المتوسّط وهو المقام الذي من المفروض أن تعتليه، وهي المدينة التي لم يوفّى حقّها من البحث و الدراسة فظلّ تاريخها مجهولا في تفاصيله عبر التاريخ و الزمن. هي أيضا وقفة لنفض غبار النسيان و التهاون لأرض لا يفهم خباياها وأسرارها إلاّ من هو مولع بحبّها…