* بقلم مهماه بوزيان – باحث جزائري
في هذا الوقت بالذات أجد لزاما علينا تفكيك موضوع “استيراد السيارات المستعملة” لأنه ملف مليء بمناطق الظل المستشكلة، بل سيصبح معضلة، إن لم يتم التدارك.
1- مشكلة غلاء أسعار السيارات الأقل من 3 سنوات
لنأخذ مثالا توضيحيا بسيطا، فسيارة من نوع “داسيا سانديرو ستيبواي” سنة بدأ سيرها في بلد المنشأ الأوروبي هي 2016 بعداد 50 ألف كلم سير، فحسب مواقع التداول نجد سعرها في فرنسا لا يقل عن 9 آلاف أورو أي ما يعادل 1 مليون و200 ألف دج (120 مليون سنتيم بسعر التحويل الرسمي الذي هو غير متاح لغالبية المواطنين) أو ما يعادل 1 مليون و800 ألف دج (180 مليون سنتيم بسعر التحويل في السوق الموازية بالسكوار، الذي في طريق التجفيف والغلق)، هذا دون احتساب تكلفة النقل والرسوم الجمركية بعد اقتنائها. السؤال المنطقي الذي ينبغي طرحه هنا: ما هي الفائدة المرجوة التي ستعود على سوق السيارات الوطنية بمثل هذا المستوى المرتفع للأسعار السيارات في الأسواق الخارجية ؟ .. إذا فهذا الإجراء لن يسهم في خفض سعر السيارات في الجزائر أبدا، بل سيدفع بالأسعار للزحف نمو الأعلى.
2- مشكلة خفيّة للسيارات الأقل من 5 سنوات
هناك من يطرح ضرورة الرفع من عمر السيارات المستعملة التي يمكن استيرادها إلى سقف الخمس (5) سنوات، حتى يكون بالإمكان توفير مركبات ذات “مقبولية” من حيث السعر في السوق الوطنية، لكن عند استحضار التجربة التونسية في هذا الصدد، سنجد بأن الأشقاء في تونس هم حاليا بصدد مراجعة هذا السقف وخفضه إلى الثلاث (3) سنوات، لأن التقييمات التي تمّ إجراؤها خلُصت إلى نتيجة غير مفرحة لنا، ومفادها أن السوق التونسية قد تحولت إلى “سلة نفايات معدنية” أو “مقبرة معدنية” للسيارات الأوروبية القديمة، من خلال استمرار السماح بدخول المركبات المستعملة الأقل من 5 سنوات إلى الحظيرة الوطنية التونسية للسيارات.
3- (1000) أورو .. من أين لك هذا ؟
كما ينبغي استحضار القاعدة المالية المعتمدة من قبل بنك الجزائر التي تُلزم تبرير مصدر كل مبلغ تفوق قيمته الـ (1000 أورو) عند إيداعه البنك. أعتقد بأن إقرار هذا الشرط يمكن اعتباره عملية التفافية على قرار الترخيص بإستيراد السيارات المستعملة !! .. وفي تقديري أرى بأنه لن يتمكن من القيام بالعملية سوى إخواننا الجزائريين المقيمون بالمهجر، أو من يمتلكون رأسمال مقيم بالخارج أو لهم إيداعات مالية وتوطين بنكي خارج الوطن، وهذه معضلة حقيقية، فالمجموعة الوطنية ككل ليس بإمكانها، وفقا لهذا الشرط، القيام بإستيراد ولا سيارة واحدة !!.. هذا سيحيلنا مباشرة إلى التجربة المغربية، مثلا في سنة 2017 نجد بأن 60% من السيارات القديمة التي يقل عمر استخدامها عن الخمس (5) سنوات التي استوردها المغاربة قام بها مغتربون، و 90% من مجموع السيارات المستوردة تزيد أعمارها على الـ 5 سنوات، كما نجد أيضا بأنه في جوان 2018 تم التخلي على شرط “الإلتزام بعدم نقل الملكية للغير قبل الـ 5 سنوات من تاريخ دخولها المركبة إلى التراب المغربي”، بحجة أن الضريبة على مقتنيات المغتربين المتقاعدين تطبق مرة واحد ولا يجوز فيها التعدد، كما أن المغتربين يخضعون لجملة شروط منها، شرط السن، الذي ينبغي أن يفوق الـ 60 سنة، وأن تكون المركبة بعدد مقاعد لا تتعدى الـ 9، مع السماح بمختلف أنواع السيارات التي تسير بالبنزين أو الديزل أو الهجينة.
4- مسألة “الديزل” لا معنى له في وضعنا الجزائري
تمحور النقاشات حول “منع دخول السيارات التي تستخدم الديزل أي المازوت” هو معضلة في حدّ ذاته !!، ففي رأيي كان من المفترض أن يُطرح موضوع استيراد هذا النوع من السيارات بالعلاقة المباشرة والوثيقة مع إجراء فرض “الضريبة على البيئة أو التلوث في قطاع نقل” حتى يكون هناك معنى لمخرجات هذا الطرح. أولا، نحن ندرك بأن مختلف أنواع محركات السيارات تخضع، ضمن فضاء الإتحاد الأوروبي إلى معايير “الأورو 6 المحسن” الذي دخل حيز التنفيذ بدءً من سبتمبر 2017، وأصبح إلزاميا بدءً من 1 سبتمبر 2019، لذلك يُفترض أن كل سيارة مستعمل تقل عن 3 سنوات ستدخل إلى الجزائر قادمة من بلد المنشأ الأوروبي في 2020 سيكون محركها مُحسناً و خاضعا للمعايير البيئية، إذا لما المنع بدواعي بيئية ؟؟!! .. في المقابل ينبغي لنا التساؤل بقوة : هل تمتلك الجزائر “دليل وطني منظم لإنبعاثات عوادم المركبات ولسقف انبعاثاتها” ؟ يمكننا اعتماده والسهر على احترامه والمحاججة به لمنع سير أية مركبة فوق التراب الوطني أو إجبارها على تسديد ضريبة عند التعدي على البيئة أو فرض غرامات عليها في حالة التجاوز لهذه المعايير !!.. ثانياً، لماذا لا يتم العمل على وضع قانون إطار بخصوص “ملوثات عوادم السيارات وسوق الفاعلين على معالجته” ؟ يُدمج بموجبه الفاعلون في قطاع البيئة والصناعات الميكانيكية والطاقة بغرض بناء منظومة “منخفضة التلوث” وخالية من الملوثات، على سبيل المثال، توجد اليوم بالجزائر” شبكة الكربون الأخضر (Carbon Green)” مملوكة لفريق من الشباب الجزائري هي في طور التوسع على مستوى القطر الجزائري ضمن إطار “المقاولاتية الشبانية” ونتائجها مشهودة وتؤكد على أهمية ما تقوم به من حيث تنقية محركات السيارات و تعزيز مدة حياتها وجودة اشتغالها، وفي هذه السنة 2019، قامت وزارة البيئة بتكريم رائدها ومؤسسها والمشرف عليها وطنياً، لذلك السؤال الجدي الذي يطرح : لماذا لا تُطبق “الضريبة على البيئة” في إطار دمج هذه الشبكة الوطنية لخفض نسب التلوث ؟؟، بما سيسهم حقيقة في تطوير تقنيات معاجة الإنبعاثات السامة من عوادم السيارات و خفض مستوياتها، بما سيعود بآثار إيجابية على كامل الساكنة، تفوق قيمة كلفتها المفروضة، بحيث سيكون أصحاب السيارات مستفيدين جدا، والمواطن مستفيد بحيث سيتمتع بهواء نقي، وأصحاب حرف الصناعات البيئية سيكونون مستفيدين من خلال إنعاش هذه الصناعات المستقبلية، وخلق إطار واسع مستقر ونامي لمناصب شغل جديدة ستتوسع بسرعة، وأعتقد أنه يهمنا جدا “خلق مناصب الشغل القارة” عند طرح أية مبادرة إجرائية.
5- مشكلة كلفة إنتاج الديزل
لكن مشكل الديزل هو اقتصادي وطاقوي، فمع توسع نسبة مركبات الديزل في الحظيرة الوطنية للمركبات تزداد الكلفة الباهظة التي تتحملها الخزينة العمومية لردم الفارق بين كلفة إنتاج اللتر من الديزل الذي يُحرق سدا في طرقاتنا وسعر توزيعه في محطات الوقود!!.
6- ارتفاع أسعار السيارات متعمد !!
مع تحسن المستوى العام للأجور مؤقتا، بعد إقرار شبكة جديدة لأجور الوظيف العمومي في بدايات 2008، وأيضا مع الإنفجار الذي شهده سوق استيراد السيارات، حين وصلنا، على سبيل المثال، في سنة 2012 إلى استيراد أزيد من 600 ألف مركبة، بفاتورة قيمتها 6,9 مليار دولار أمريكي، وفي سنة 2013 بلغ عدد السيارات المستوردة أزيد من 550 ألف بقيمة 6,35 مليار دولار، وفي سنة 2014 استوردنا 440 ألف مركبة، ومع عدم تطوير شبكة الطرقات في النطاق الحضري، بدأت تتولد ظاهرة الإزدحام المروري وتكبر، حتى أصبحت مشكلا حقيقيا جاثما على يوميات المواطنين، وبدلا من أن يتوجه مقررو السياسات العمومية إلى اعتماد حلول عصرية ذكية لمعالجة مشكلة الإزدحام المروري، نجد بأن مخيلتهم العبقرية (التي تستكثر على الطفل الجزائري أكل الياؤورت) اهتدت إلى أن الحل العبقري والجذري ألا وهو “البدء في تجفيف الطرقات الوطنية من السيارات” وليس في توسعة شبكة الطرقات في ظل البحبوحة المالية، فكان الإجراء جاهزا بوقف استيراد السيارات (ليس بغرض حماية احتياطياتنا من العملة الصعبة، لأن هدر هذه الإحتياطيات قد استمر بشكل فضيع وصل إلى استيراد احشاء الزواحف ودمها، والخرشوف) مع تعمد رفع أسعار السيارات في السوق الوطنية بغرض “تحجيم القدرة الشرائية” ..!!! .. في تحرك مخالف لإتجاهات التنمية الإقتصادية العالمية ومؤشراتها، حيث أننا نجد مؤشر (عدد المركبات لكل 1000 ساكن) هو أحد مؤشرات التنمية الإجتماعية العالمية، فمثلا في الدول المتطورة التي تعنى كلها بتطوير النقل العمومي الحضري كواحدة من مهامها المؤكدة، نجد بأن هذا المؤشر مرتفعا جدا، مثلا نجد ألمانيا تحوز على (561 مركبة ذات محرك\1000 ساكن) رغم ما تتميز به من شبكة نقل متطورة جدا، دون الحديث على الولايات المتحدة الأمريكية (800 مركبة ذات محرك\1000 ساكن)، الجزائر نحن حاليا في مستوى (146 سيارة \1000 ساكن) بينما قبل عشر سنوات كنا المؤشر عندنا 121 مركبة، مع بدء العودة إلى ميزة “قدم المركبات”.
7- تركيب السيارات في الجزائر يكلف أكثر من إستيرادها
هناك مفارقة عجيبة، فحسب أرقام الجمارك الجزائرية، وجدنا أنفسنا بغرض إنتاج عدد محدود جدا من السيارات السياحية، حيث في عام 2017 بلغ عدد المركبات التي تم تجميعها محليًا 110 آلاف وحدة فقط، بكلفة 1,67 مليار دولار لتغطية استيراد مجموعات CKD الموجهة لصناعة التركيب هذه، وبفاتورة بلغت في سنة 2018 حوالي 3 مليار دولار. أعتقد أنه لو نأخذ احصاءات سنة 2012 أين استوردت الجزائر مركبات جاهزة تمام بلغ عددها 605312 وحدة وبجودة معقولة، سنجد أنه من المفترض بفاتورة استيراد مجموعات CKD أن نجد في سنة 2017 على الأقل بأن عدد السيارات التي تخرج في نهاية سلسلة التركيب المحلية لا تقل على 150 ألف وحدة، هذا مع التغاضي على كل العناصر المحلية التي تدخل في سلسلة التركيب (مواد محلية، يد عاملة، طاقة مدعومة، …) وهذه كلها لها كلفة ينبغي إضافتها، ليتبين لن حجم الإفلاس في هذه المشاريع.
8- الحلقة المفرغة والحلّ المغيب
من خلال التطرق إلى العناصر السابقة نكتشف بأننا أمام “حلقة مفرغة” واستمرار الحديث على جدوى استيراد السيارات المستعملة مهما كان عمرها أو نوعية الوقود الذي يُشغل محركاتها سيبقينا في دائرة الوهم والحلول الواهنة، لذلك كان من المفترض التوجه مستقبلا إلى تعديل منظور وعمل سلاسل تركيب السيارات والصناعات الميكانيكية، لتكون السلاسل تتمحور أساسا على صناعة “قطع الغيار” الموجهة للسوق المحلية، لأن هذا التوجه الجديد سيوفر لنا ثلاثة (3) عناصر متعلق بالأمن الصناعي والإجتماعي، أولا، إحلال الواردات بما سيعزز لدينا الأمن المالي، وثانيا، تقليل فاتورة واردات قطع الغيار، والتي هي في غالبها مغشوشة تخلو من مواصفات الجودة التي ينبغي أن تتصف بها كقطع غيار أصلية، بما يهدد السلامة المرورية الوطنية، وثالثا، القضاء على شبكات تفكيك السيارات المستعملة، التي تُغري شبكات الإجرام على السرقة والقتل، لأن سوق قطع الغيار المستعمل رائج، مع ترك مسألة استيراد السيارات المستعملة كمسألة فردية متاحة في أي وقت وليس خيار دولة بأكملة لمعالجة معضلة غلاء أسعار السيارات.
مهماه بوزيان – باحث جزائري