فيصل شريف
تحدّى المخرج الفرانكو-جزائري رشيد بوشارب في 2006 عالم السينما الفرنسي والغربي ليحكي ويحاكي القصّة المخفية للأنديجان خلال الحرب العالمية الثانية في رائعة “لي أنديجان” التي دخل بها الحلبة السينمائية. رشيد بوشارب أنجز فيلما حربيا وتاريخيا ودراميا في نفس الوقت، يروي في تقنية سينمائية رفيعة المستوى حكايات أولئك الجنود الذين جنّدتهم فرنسا عام 1943 في شمال أفريقية في محاولة منها للتحرر من السيطرة النازية.
يروي الفيلم، المشوار الحربي لأربعة من هؤلاء الجنود الذين كان عددهم 130 ألفا والذين أطلق عليهم اسم “لي أنديجان”. ومن بينهم كان هنالك 110 آلاف مغاربي في غالبيتهم جزائريين و20 ألفا من إفريقيا السوداء. هؤلاء هم الذين دافعوا عن فرنسا وكانوا في الصفوف الأمامية في الألزاس واللّورين سنتي 1944 و1945. الفيلم كان محاولة لتحريك الذاكرة النائمة عند الفرنسيين بخصوص هذا الملفّ الذي مازال عالقا من الناحية السياسية، ومحاولة لتحريك الضمائر الإنسانية عبر الصورة السينمائية بطريقة تفضي إلى التحرّك والاعتراف بهؤلاء المنسيين منذ الحرب العالمية الثانية.
عندما عرض فيلم رشيد بوشارب للجمهور في دور السينما، ألهب المشاعر تماما كما حدث يوم عرضه في مهرجان “كان” الدّولي الـ59، وهو المهرجان الذي نال فيه الفيلم جائزة أحسن دور رجالي والذي منح لأصحاب البطولة الخمسة: جمال دبّوز، سامي ناصيري، رشدي زام، سامي بوعجيلة وبرنار بلانكن. فنّيا وإنسانيا كان ذلك عرفانا وردّا للاعتبار للمحاربين الأفارقة الذين ساهموا بقسط كبير في تحرير فرنسا والذين حاربوا إيمانا منهم بالشعار الفرنسي الشهير “حرية، مساواة، أخوّة” والذي تبيّن لهم فيما بعد أنّه شعار لم يكن من أجلهم.
للذين لا يعلمون، “لي أنديجان” فيلم من إنتاج مشترك جزائري، مغربي، فرنسي وبلجيكي، كلّف 15 مليون يورو. وإذا كان الفيلم قد نجح في مهرجان كان الدّولي، وإذا كان قد حظي بإعجاب النقّاد والسينمائيين، وإذا كان من المنتظر أنه سيلقى نجاحا باهرا عند الجمهور الفرنسي، فإنّ السؤال الذي ظلّ يثير السينمائي رشيد بوشارب هو هل يُتَقبّل الفيلم في الجزائر خاصّة ومغربيا وإفريقيا ؟
بوشارب كان يدرك بأنّ موضوعا كهذا فيه من الحساسية الشيء الكثير وبأنّه لن يستطيع أن يرضي الجميع. لقد خاطر في ملفّ شائك ومتشابك ومع الصيت الكبير الذي لقيه الفيلم فإن المخرج لم تصبه شوكة واحدة، بل بالعكس لم يتلقّ إلاّ الورود ولكنّه ظلّ مترقبا لأشواك أو ورود الضفّة المقابلة. وفعلا وصلته الهجمات التي رفضت مضمون الفيلم وحتى الطرح الذي أراده المخرج. وبالتالي فإنّ احترافية بوشارب لم تشفع له مع من يرفضون قراءة التاريخ بروية ويريدون تاريخا على المقاس، تاريخا بطوليا محضا لا يعرف إلاّ التمجيد الزائد عن حجمه والتهليل الزائف المليء بالنفاق.
قال الممثل جمال دبّوز أيّامها بكلمات صادقة وعميقة «… لقد أنجزنا هذا الفيلم ليفهم الشباب “البور” بأنّهم لم يولدوا في فرنسا بمحض الصدفة…” هذه الكلمات تجعلك تقف أمام أجمل لقطة في الفيلم وقد تكون مفتاح الرسالة التي أراد بوشارب أن يوصلها لكلّ الأطراف المعنية ماضيا وحاضرا… ففي عزّ المعركة وعلى وقع المدافع والقنابل والرصاص، يصيح أحد “الأنديجان” في أصحابه محمّسا إيّاهم وفي عينيه ثقة وعزيمة “سنغيّر مجرى التاريخ وسنغيّر مجرى تاريخنا” في إشارة واضحة إلى إنهاء الاستعمار الفرنسي في بلدانهم… للذي لم يقرأ تاريخه حقّا لا يعلم أنّه بعد عشر سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، قامت إحدى أكبر الثورات في التاريخ… الثورة الجزائرية.