لست في موقع يسمح لي أن أقدم نصائح للمجتمع والنظام، فبضاعتي محدودة ووجودي كعدمه لا يؤخر ولا يقدم شيئا، وكلامي كمن يضرب الريح بالهراوة. مجتمعنا لا يسمع لمن ليس بيده المال والجاه والعصا ولا يحسنون التجارة بالدين، مجتمعنا لا يسمع لمن كأن ضمن القطيع مثلي، مجتمعنا يسمع فقط ما يأتيه من فوق القطيع، نظامنا يرفض سماع الرأي الآخر المخالف ولا يريد أن يسمع إلا صداه وكل ما يسمعه خارج ذلك الإطار يعتبره مسًّا بسيادته بل ويراه خطرا يهدد وجوده. لست معارضا لنظامنا، المعارضة لها برامجها البديلة وأهدافها وأنا لا برنامج ولا هدف لي سوى أن أرى الجزائر قوية آمنة مستقرة ينعم فيها النظام والشعب بالخير والمحبة والتضامن الفعلي وكأنهما جسد واحد إذا تضرر عضو منه سارعت كل الأعضاء لمساعدته وحمايته… أو كما قال رسولنا عليه الصلاة والسلام، “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
من منا من القطيع من لا يعرف وحتى الشياتين والمتملقين من الأساتذة المحللين المختارين بدقة في قنواتنا الفضائية وإذاعاتنا الوطنية بأن نظامنا جعل من السلطة غاية لا وسيلة، ومن الثروة الوطنية مصدرًا للولاء لا لبناء الوطن. نظام عطّل طاقات المجتمع، وقيّد الفكر الحر، وأدار ظهره لكل فكر حر مع غياب الشفافية والمساءلة. وتخلفنا لم يعد يخفى على أحد أصبح واقعا ملموسا، ارتفاع نسبة البطالة التضخم غلاء المعيشة البيروقراطية، اقتصاد هش يعتمد اعتمادا شبه كلي على المحروقات. مؤسسات تمثيلية صورية، انتخابات شكلية، غياب للمعارضة الفاعلة، وتحكّم مركزي خانق في مفاصل الدولة. السلطة لا تستمدّ شرعيتها من الإنجاز، بل من السيطرة، الرقابة ضعيفة، والمساءلة شبه غائبة تماما، وصحافة الاستقصاء غائبة تماما والإعلام الرسمي مجرد أداة للدعاية لا أكثر وبوقا ينفخ فيه ما يريده.
إن الاعتراف بالخطأ في تسيير أمور الدولة ليس جريمة ولا هزيمة تهز أركان النظام وتزعزع استقرار الدولة، بل هو خطوة ضرورية جادّة وفعالة. لا يمكن لأمة أن تتقدّم وتتجاوز سلبياتها ما لم تضع أخطاءها على طاولة التشريح، وتسمّي الأشياء بأسمائها، وتنزع بشجاعة العضو المضر للجسم، بل تغطية المرض هو الطريق الذي يؤدي الى ما لا تحمد عقباه ….
يؤلمني رأسي كثيرا حينما أقرأ الأخبار الكاذبة التي تصب الزيت على النار وتسود الوضع العام في الجزائر وتجرم كل مسؤول في السلطة، وتجعل من الحبة قبة، الأوطان لا تبنى بالسب والتخوين …كان من اللازم بل من الضروري أن تسمح السلطة لحرية التعبير وسماع الراي الآخر فمن خلاله تدرك مكمن الأخطاء والسلبيات من المعلوم لا توجد سلطة في العالم كله بلا سلبيات وما الكمال إلا للخالق سبحانه وتعالى.
ثمة كلمات وآراء صادقة لا تتملق ولا تزين السلبيات تهمها المصلحة العامة تبني الأمم وتوجه النظام إلى ما فيه خير الأمة وتقدمها وازدهارها وثمة كلمات كذلك تبث سمومها في المجتمع تهدم بدل أن تبني وهذا ما لا يرضاه أي جزائري حر وشريف أينما كأن موقعه ومنصبه.. ثمة نقد ينير طريق الغافلين ويوقظهم من سباتهم ونقد آخر يخرب الأوطان ولا يبنيها.
الانطلاقة لا تصنعها الخطابات الرنانة والشعارات الشعبوية والرأي الأوحد بل تخلقه إرادة جماعية ولنا العبرة في ثورتنا المجيدة، الأوطان لا تبنيها جهة واحدة مهما قوة اخلاصها وحبها للجزائر بالصدفة، بل يبنيها جميع أبنائها، بتوجيه من الإرادة السياسية “النظام” التي تضع الإنسان في قلب مشروع التنمية.
الجزائر، مثل أي أمة حيّة، يجب أن تكون موضع تساؤل، ولما لا إدانتها في بعض الأحيان، ولكن ليس كل نقد عادل وليس كل غضب شجاعة وليس كل صراحة وفاء، أكيد فيه إيجابيات لا تعد ولا تحصى في الجزائر لا ينكرها إلا جاحد، وفيه كذلك سلبيات يمكننا أن ننبه إليها دون أن نحتقر نظامنا ولا شعبنا ولا ثقافتنا ولا شهداءنا الأبرار، هناك وطنيون شرفاء ضحوا بحياتهم من أجل حريتنا واستقلالنا فهؤلاء مكرمون مبجلون.
لا يجوز أن يفرض أحد علينا ما يجب أن نشعر به ونعبر عنه، فلا وصاية لأحد على أفكارنا إذا لم تدع للفتنة والعنف، فتلك الأفكار في نظري هدامة ويجب على السلطة حماية المجتمع من سمومها ومعاقبة من ينشرها بأية وسيلة كانت.
لكن هل ينفعنا أن نقول لمريض السرطان أنه مصاب بالزكام، علينا أن نخبره الحقيقة وندلّه على العلاج، السلبيات والأخطاء تعالج بالمصارحة، وتوجّه بالنقد وتحمّل المسؤولية، ولا تعالج بالأوهام والشعارات الشعبوية، وتخوين كل من يشير بأصبعه إليها.
للجزائر كل الإمكانات البشرية والمادية لكي تنطلق نحو المستقبل وتسعى خلف حياة جديدة وتبني طموحات الشعب، لكن ذلك لن يكون سهلاً عندما ندفع مسبقاً ثمن هذا التفكير وقبل البدء به. يمكن لنا أن نتخذ الخيارات، الشعور بالفشل أو الحظ السيئ خطير جدا إذا لم نتدارك ذلك بعزيمة قوية. يُمكِنُنا أن نبدأ من جديد إذا تعايشنا مع فكرة الفشل على أنها تجربة استخلصنا منها الدروس لن تحدث مرة أخرى.
الفشل هو درس تحصل عليه مرغماً، يختارك لأنك لن تستطيع أن تتعلمه من الآخرين، فالتجربة خير دليل وبرهان. الفشل يعطي طعماً للنجاح لن تتذوق حلاوته إذا لم تذق مرارة الفشل.
في حالة واقعنا المقلق الذي لا يتوفر على الحكمة ويتفاقم عاما بعد عام، يكون مآله الانهيار التراجيدي بسبب تسويق الآمال الكاذبة إلى الشعب، وبسبب تعلق الطبقة الحاكمة بآمال كاذبة، وبسبب صمت الشعب طمعا في آمال كاذبة، وحتى بسبب ثورة غير متبصرة تقودها فئات متضررة تطمع في التغيير دون أن تتحرر من نمط تفكيرها الذي كأن سببا في أنتاج النسق السياسي الفاشل الذي ثارت ضده. ويمكن القول إن الشعوب من الصعب أن تتغير إلا إذا يئست من آمالها الضحلة ويئست من تلك الخطابات المنتفخة بالوهم.
لست متشائما من واقعنا المقلق فمن اليأس السلبي سننتقل إلى الأحسن، وسوف تُحدث قطيعة جذرية مع الذهنية المتحجرة والفكر الأحادي التي تسببت في تأزم حالتنا حالة اليأس في نظري هي حالة ثورية ضد أمل كاذب هو نفسه جزء لا يتجزأ من “وضع بنيوي” يتطلب تغييرا كلّياً ونسقيا.
لنعد إلى واقعنا المقلق وما نسمعه ويتردد على مسامعنا أينما ذهبنا، اليأس الذي أشاعه الفاسدون وناهبو المال العام: أن الكل يسرق إلا من لم يستطع، والكل يخون إلا من لم يستطع، والكل يغش إلا من لم يستطع، والكل راش أو مرتش…
ويقول منطق اليأس الذي أشاعه المحتالون والمزيفون: أنه لا تلامذة ولا معلمون في المدارس، ولا طلبة أو أساتذة في الجامعات ولا شباب في الأحياء ولا تجار ولا عمال في الأسواق، ولا احترام ولا أخلاق أو قيم أو تضامن بين العائلات، بل ولا عبادات أو دين في المساجد…
نحن الأغلبية، لسنا من المحتالين ولا المزيفين، ولا من اللصوص أو أبناء اللصوص وناهبي المال العام، نحن الذين ينبغي أن نصنع منطق الأمل ونطيح بمنطق اليأس إذا أردنا أن نكون.
لنكون منطلقا لإعادة صوغ رؤيتنا للحياة وتعزيز ركن الأمل لبناء دولة الأمل والرفاه والعدالة الاجتماعية ودولة القانون والمؤسسات
د عزالدين معزة