بقلم: د. جمال بلعربي
عندما يكون احتمال الوصول إلى الضفة الأخرى على متن زورق ممنوع، ضعيفا جدا، ويكون احتمال الذهاب إلى السقوط الأخير شبه مؤكد، ورغم ذلك تصر امرأة أن تغامر بحياتها وبحياة أطفالها، فقط من أجل ذلك الاحتمال الضئيل، تحت قصف من الخطابات والتصريحات التي تعلن عن مشاريع الإسكان وتدابير الزيادات في الأجور والسعي الحثيث لتحسين المستوى المعيشي، والدخول في سيرورة تنموية غير مسبوقة – وأغلب تلك الخطابات حقيقة ملموسة، ولو نسبيا، كبدايات على الأقل، وتنتظر الانخراط الجماهيري الكاسح – وليست مجرد خطب وتصريحات جوفاء، عندما يحدث هذا مع ذاك في معادلة واحدة يجب أن نعترف بأن خللا ما يفسد توازن هذه المعادلة. ولنذهب مباشرة إلى تسمية العلة ومكمنها: يوجد عجز خطير في الوظيفة الاتصالية للمنظومة يجعلها غير قادرة على تفعيل التواصل وتنقيته من عناصر التشويش، وهذا ليس بالهين على اعتبار أن العمل السياسي في نسبة كبيرة منه عمل اتصالي. وفي مقابل ذلك تواصل الرسائل الإعلامية العولمية تنميط المخيال حول العالم، والمنطقة التي تهمنا في هذا السياق، لجعل الناس مسكونين بهوس “الحرقة”.
يبدو كأننا نعيش حالة من التوحد الاجتماعي الشامل والمطلق. لا نستطيع أن نتحدث إلا مع أنفسنا. ومع ذلك نرى أنفسنا في أفضل حالاتها ولا نفهم الآخر إلا من خلال مصفاتنا الشخصية جدا والخرقاء، فلا يصلنا منه إلا ما عودتنا عليه الخطابات الإعلامية التي حولتها تقنيات الاتصال الجديدة إلى مادة للاستهلاك اليومي، بل المستمر على مدار الساعة. مواقفنا الرافضة والعدمية والداعية إلى الهروب، متجذرة ولا تقبل النقاش، حتى عندما تكون غير مؤسسة ولا معقولة ولا ممكنة. وكأنها طريقتنا في مكابدة صعوبات الحياة وتحملها. وطريقتنا في التعبير عن الرفض الأصلي لبناء قد تم في غفلة من التاريخ وعلى أرض من الأكاذيب والضغائن، وربما تلك أيضا طريقتنا في الشعور بالضياع في منظومة اجتماعية نراها متناقضة ومن استفحال عجزها أنها لا تستطيع تجاوز تناقضاتها.
نشعر أن كل شيء ننجزه داخل منظومة قائمة على رخصة التنمر – شبه الرسمي – كأداة للمحافظة على التوازنات، مضيعة للوقت والجهد والأحلام. منظومة، من الناحية القانونية، والرسمية والعلنية، تحارب الفساد، ولكنها على أرض الواقع تتعايش معه، وأحيانا تبدو كأنها تحافظ على توازناتها بفضله، كي لا نقول إنها تتعمد إعادة إنتاجه. هذا ما يشعر به الناقمون على كل شيء، والذين يرون أن الحياة الطبيعية لم تعد ممكنة داخل هذه المنظومة، ولا إلى جانبها، وفي كنفها، بل توجد خلف المغامرة، بل المقامرة، بكل شيء، وبأغلى شيء.
يمكن أن نتخيل عدة سيناريوهات للتفاعل مع الحنقة المطلقة، وليس التفكير في الحرقة سوى واحد منها، ولعله أصعبها، ومع ذلك أصبح يتكرر مع كل مساء جديد. لعلنا نميل إلى هذا الخيار لأننا نصطدم بجدار التوحد. نشعر أن أحدا لم يعد يستطيع فهمنا، وأن لغتنا لم تعد تصل. لم تعد تعني شيئا. لم نعد نصدق الوعود، ولا نثق في المشاريع المعلنة، ولا في التدابير. وننتهي إلى الاعتقاد بأن الاستثمار في المتاهة خسران. نتحصل على عقد الاستفادة من سكن مدعم، أو اجتماعي وبالمجان، وفي صبيحة الغد لا نتردد في التظاهر ضد كل شيء وأي شيء. ونستفيد من تمويل بدون فائدة، ونستهلكه في غير محله، ولا نشعر بالالتزام بتسديده في منظومة نؤمن بأنها لا تتضايق من فكرة اللاعقاب، ولا يمنعنا ذلك من التعبير عن رغبة جامحة في الحرقة.
نحن ضحايا خطابات إعلامية تأتينا من عواصم الجذب، في صورة عناوين مثل ” … بلد الأفكار”، ترافقها صور شباب جامعيين في مخابر طبية وفي مدرجات جامعية خرافية الأناقة، وفي قرى طلابية لا نراها إلا في الأحلام.
رسائل يومية عبر مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي تقترح علينا خدماتها لاستصدار التأشيرات وجوازات السفر المقبولة في جميع دول العالم، عروض للدراسة في الخارج، في جميع التخصصات ولجميع المستويات، وعروض عمل – لا نعرف إن كانت حقيقية أم وهمية تهدف إلى شد اهتمام من تستهدفه -، وتيك توكات حول تجارب شباب ركبوا زوارق الموت واستقبلتهم شرطة الحدود في الشواطئ الشمالية للمتوسط بالترحاب والدواء والطعام وتسهيلات التنقل. وتجارب شباب يتنقلون بكل حرية بين مختلف دول العالم.
نحن ضحايا تراكمات عشرات السنين من الشعور بالاستلاب أمام منظومة لم تستطع أن تتقبل اختلافاتنا ولم تستطع أن تأخذنا في الحسبان عندما كانت تتشكل بطريقة هي نفسها تصفها الآن بقاموس من الأوصاف السلبية.
لا نعتقد أن الخروج من هذه الحالة سيجري في صمت بالطريقة نفسها التي تنظم بها رحلات الهجرة غير الشرعية. بل يجب أن يتحول هذا الموضوع إلى مادة للمعالجة الإعلامية في إطار حملات احترافية حقيقية. للأسف، كثيرا ما تتحول البلاتوهات التي تتناول موضوع الحرقة من فضاء للنقاش المثمر والمعالجة الموضوعية للمشكل إلى فضاء للدعاية المجانية لهذا البلد أو ذاك. مثلما يحدث أحيانا في البلاتوهات التي تطرح موضوع الإدمان، ودون أن ينتبه منشطوها، تتحول من انتقاد الظاهرة إلى ما يشبه الترويج لها؛ بل كثيرا ما يكون المنشط الذي يدير الحوار في البلاتوه هو نفسه مسكونا بهاجس الحرقة، ومن الطبيعي أنه، في هذه الحالة، آخر من يمكن التعويل عليه لإدارة مثل هذا النقاش بطريقة إيجابية وموضوعية. فهؤلاء منشطون ينسون أنفسهم ويتصرفون مثل عارضات الأزياء، أهم ما في أذهانهم أن يظهروا بصورة جميلة، وفق مقاييسهم المضحكة للجمال، وأن ترضى عنهم صديقاتهم. وعندما تزل بهم القدم لا يترددون في إقناع أنفسهم بأن جمهورهم أغبى من أن ينتبه إلى حماقاتهم. للأسف، يبلغ السقوط المهني أحط درجاته عندما يفقد الإعلامي احترامه للجمهور الافتراضي الذي هو فقط مصدر الطاقة الخلاقة ومحفز الإبداع.
لا مفر لنا من فتح القنوات الإعلامية على الممارسة الاحترافية. فالرسالة الإعلامية لا تختصر في صورة شخص “أنيق”، وسرها لا يكمن في مهارة تقليد صوت معين خاصة إذا كان ذلك التقليد يؤدي إلى نتائج سخيفة، ولا يكمن في ارتداء خمار مشابه لخمار فلانة أو علانة، حتى لو كانت قناتها الخليجية صنعت منها أكثر من الحقيقة بكثير لأنها كانت في حاجة إلى العمل بما يعرفه المهنيون باسم نظام النجوم “ستار سيستم”، حيث يتم تحويل النكرات إلى نجوم ثم استثمار نجوميتهم في تمرير رسائل معينة، ونشر إيديولوجية معينة أو، وهنا مربط الفرس، تحطيم إيديولوجية يراها أصحاب القناة مزعجة ومعطلة لمخططاتهم في المنطقة. الرسالة الإعلامية ينتجها مهنيون يتحملون مسئوليتهم تجاه وطنهم ومجتمعهم ومؤسساتهم، وتجاه الإنسان، في إطار أخلاقيات المهنة.
في الأثناء، تبقى مجموعة من القطاعات برمتها يفترض أنها معنية مباشرة بهذا الموضوع، ويفترض أنها تتوفر على مصالح وأخصائيين ينشغلون به، ويفترض أنها تنكب على دراسته بوسائل علمية واعتمادا على معلومات دقيقة، لكنها على ما يبدو، ورغم ذلك، ليست لديها القدرة – أو ربما الخبرات – الكافية لبلورة السياسات المناسبة لمعالجته. فهي تكتفي بمتابعة الأخبار في صمت غير مفهوم وغير مبرر.
نعتقد أن البحث العلمي هو الآخر يمكن أن يلعب دورا في معالجة مثل هذا الموضوع. البحث العلمي الحقيقي وليس ما يشبه الحاضنات التي من قلب المعجن نعلم علم اليقين بأن أغلبها مجرد حبر على ورق ومجرد مبرر لتعويضات مالية غير مستحقة. وهذا موضوع آخر، على كل حال.