بقلم: د. حسينة بوشيخ . أستاذة محاضرة بقسم علوم الإعلام والاتصال، جامعة باجي مختار. عنابة.
هل ضاعت فرصة الجزائريين لتغيير النّظام من خلال تغيير وجوه الطبقة السياسية التي احتكرت المشهد لعقود طويلة عن طريق انتخابات رئاسية نزيهة وشفافة؟ ولماذا عجز الحراك عن إخراج ممثلين عنه ؟ وانتهت كل محاولات التّمثيل في الأسابيع الأولى إلى الفشل الموسوم بعناوين عريضة لتهمٍ جاهزة، على رأسها الخوف من اختراق النّظام و التفافه على المطالب، وتخوين المناضلين والناشطين السياسيين الذين برزوا كمعارضين للعهدة الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة أو للسلطة الحاكمة ككل.
لقد أصبحت علمانية بعض الناشطين تهمة خطرة، والإفصاح عن أفكارهم غير التقليدية في التّعاطي مع بعض القضايا الحساسة سببا في شن هجمات كبيرة عليهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة عبرموقع فايس بوك الذي يحصي 24 مليون حسابا للجزائريين، فانقلب كثيرون ضد شخصيات حقوقية لطالما تمتعّت باحترام في أوساط عدد كبير من الجزائريين، على غرار المحامي والناشط الحقوقي مصطفى بوشاشي، أو زبيدة عسول، أو كريم طابو، وحتى نشطاءآخرين برزوا في السنوات الأخيرة من خلال معارضتهم لحكم الرئيس بوتفليقة ثم مرافقتهم للحراك منذ انطلاقته، على غرار سميربلعربي، ابن مدينة عنابة، الذي عرفه الجزائريون قبل سنوات قليلة، من خلال فيديو واجه فيه وزيرالطاقة السابق شكيب خليل طالبا منه عدم استغلال زاوية سيدي ابراهيم التي استضافته لتحسين صورته، بعد فضائح رشاوى سونطراك التي تورّط فيها،.. لقد أبدى الحراك منذ أيامه وأسابيعه الأولى هشاشةً حالت دون مقدرته على إيجاد آليات واقعية لتجسيد مطالبه، وحرّم الحديث عن تمثيله مطلقا، وانساقت الجموع عبر المواقع الافتراضية للتّعبير عن رفض مطلب التمثيل خوفا من الاحتواء والتفريق، لكنّها في نفس الوقت أعطت فرصة لملايين الحسابات التي أشهرت سيف التّخوين والتّشكيك ونشر المغالطات والتفسيرات الخاطئة، والتأويلات المدمّرة للتصريحات، ممّا جعل النخب تختفي وتتوارى خلف الشاشات مراقبة ما يحدث أوتكتفي بالمشاركة في الحراك، فلا أحد يريد أن يكون خائنا أو يبدوّ كذلك في عيون الآخرين، وبذلك نجحت جيوش ” الذباب الإلكتروني” عبر الصفحات المشبوهة في تحقيق مسعاها.
وفي خضم أجواء مثل هذه، كان يجب أن يعود الانتهازيون وتجار السياسة كي يستثمروا في الفراغ، ولم يكن صادما ولا غريبا للكثير من المتابعين، أن تخرج الوجوه القديمة التي كانت تهلّل للعهدة الخامسة وتعلن الولاء التام لبوتفليقة، كي تعلن ترشحها ومساندتها للحراك، وهي التي اختفت وهادنت في الأسابيع الأولى منتظرة ما ستقرّره الجموع وما سيكتبه التاريخ، بل الغريب أن ينتظر الجزائريون الذين يساندون إجراء انتخابات 12/12 حدوث معجزة من خلال قائمة ترضيهم وترضي طموحهم في رئيس منتخب يتمتّع بالكفاءة وقادر على إخراج البلاد من أزمتها، في الوقت الذي لم يحصل فيه واقعيا، أيُ عمل ميداني لمساندة مرشّحين شباب، أحرار أو غير محسوبين على ما بات يعرف بأحزاب السلطة. بغض النّظر عن كون فترة الإعلان عن تنظيم الانتخابات والتّحضير لها، ليست كافية لإنجاز عمل ميداني مثل هذا، في بلد فقد فيه الشعب الثقة في أحزابه السياسية المتشابهة في عملها وأساليبها وحماية مصالحها الضيقة، وتراجع فيه دور المجتمع المدني والتّنظيمات الشعبية والطلابية التي لم يعد لها أي وزن أو تأثير، بعد أن احتوتها السلطة منذ زمن.
أما الأحزاب التي تحاول أن تسوّق لنفسها من خلال ادعاء خطاب نقدي للسلطة القائمة، والقول بمعارضتها كي تنال رضا الشعب، فإنّها مرة أخرى أثبتت فشلها وعدم قدرتها على قراءة تغيرات المشهد وتطلُعات أجيال المستقبل، وهي أحزابٌ تفتقر في حد ذاتها إلى الممارسة الديمقراطية السليمة على مستواها، وتُصر على تقديم أمنائها العامون أو رؤسائها في كل استحقاق انتخابي، مثل حزب طلائع الحريات الذي رشّح رئيسه علي بن فليس أو حزب عبد العزيز بلعيد الذي مازال يبحث عن فرصة للتّموقع في المستقبل تيمنا بتسمية حزبه ” جبهة المستقبل” الذي يعرف الجزائريون قصته وانتماء من يشكّلونه وقد تربوا كلهم في حضن الحزب الواحد. و إذا كانت الأحزاب العريقة في الدول الغربية تبحث كل فترة انتخابية عن دماء جديدة تضخها في مشهدها السياسي، مثلما حدث في فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية، فإنّ الأحزاب عندنا لا تتخلى عن منطق الزعيم الأبدي الذي يزداد تقديسه مع مرور السنوات وتُختصر فيه صورة الحزب، الذي لا يعرف معنى التداول على السلطة داخله، لكنه يسعى ليصل إلى السلطة من خلال هذا المفهوم خارجه. فلو أنّ قواعد اللعبة السياسية والديمقراطية تُحترم داخل هذه الأحزاب في حد ذاتها، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد، ولكنّها أحزابٌ تصر على اختصار قاعدتها في رئيسها، حتى اهتلكت صورتها لدى الشعب وازداد نفورا منها ومن الحياة السياسية الحزبية.
لقد أعطت مشاركة الشباب في المسيرات وإبداعهم في تبليغ مطالبهم من خلال اللافتات والشعارات المتنوعة، جرعة أمل عن عودة الاهتمام بالشأن العام والسياسة وسط فئة مهمة تمثل أكثر من 70% من مجموع الجزائريين، لكن المسيرات الأسبوعية لن تكون كافية لوحدها لخلق وتنفيذ التّغيير واقعيا في الخارطة السياسية للبلد وتحقيق مفهوم المشاركة السياسية الذي نحن في أمس الحاجة إليه، لإحداث القطيعة مع الممارسات البالية لديمقراطية الواجهة التي غذّت شبكات الفساد ومنحت لها السلطة والقوة لتتوسّع و تتجذّر في مفاصل الدولة. في وجود معارضة لا تمتلك مشروعا وطنيا واعدا للانتقال الديمقراطي، وظلت دائما أسيرة من في السلطة . لكن ما هو مؤكد اليوم ، أنّ عملية التّحول الديمقراطي الحقيقي في البلد تحتاج إلى نخبة سياسية واعية وقادرة على تحقيق تصور بديل يحوز على ثقة الشعب ويدفعه إلى المشاركة وتغيير سلوكه الإنتخابي الذي اتّسم بالرفض والمقاطعة، ما جعل السلطة تستأثر بالعملية الانتخابية و تخرجها بالشكل الذي تريده.
- ختاما فإنّ عدم وجود مرجعية فكرية ثقافية وسياسية لهذا الحراك، أثبثت صعوبة تجسيد مطالبه وترجمتها إلى قرارات واقعية، لاسيما في ظل حملات التّخوين والتّشكيك التي تحول دون بروز شخصيات فاعلة وقائدة من بين جموع الجزائرييين الشرفاء، الراغبين في خدمة بلدهم بصدق و أمانة. وعليه فإنّ الإشكال يبقى قائما ما دامت ديمقراطية الواجهة هي المسيطرة بعيدا عن علاقة تكاملية بين النخب و المجتمع المتدفّق في الحراك بكل أطيافه، للمساهمة في إرساء دعائم ديمقراطية فعلية، قوامها وعي شعبي يراقب الإرادة السياسية ويجبرها على الالتزام بواجبها الديمقراطي تجاهه.