- ليبيا بوّابة السّلاح .. والأوراس أوّل الكفاح
- اكتشاف لـوس وتعفّن الصراع بين المصاليين والمركزيين عجّل بالثورة
الـحــلــقة الثالثة:
يستطرد ضابط جيش التحرير، عن الولاية الأولى أوراس النمامشة، الرائد محمد صغير هلايلي، في الجزء الثالث من هذه الشهادة التاريخية الثرية، عن قصة سلاح الأوراس، من هزيمة رومل في معركة العلمين سنة 1942 إلى ليلة الفاتح من نوفمبر 1954، ورحلة السلاح الشاقة من أعماق ليبيا إلى أعالي كيمل، وعن طرق شرائه وتخزينه السلاح، خاصة دور بن بولعيد الرائد في هذه المهمة، وهو يُعدّ العدّة للثورة المباركة، ومواقفه من حل المنظمة الخاصة، وصراع “الإخوة الأعداء” المركزيين والمصاليين، وقراراتهم المجحفة في حق مناضلي “لــوس” ومبررات قرارات بن بولعيد الحازمة والحاسمة، بمنع المناضلين دفع الاشتراكات للجهاز المركزي، والدفع بمناضليه لحضور الاجتماعات تحت صفة مراقبين حياديين، دون التخندق مع أحد الطرفين، وأن يفتتحون مجالسهم تحت يافطة مصالي الحاج، للتمويه عليه وعلى الفرنسيين على حد سواء، حتى لا يتفطنوا لتحضيراتهم لإشعال الثورة، ورفضه لقرار الحزب الجائر القاضي بتسليم أعضاء المنظمة السرية لوس أنفسهم للقضاء الفرنسي أو التسفير نحو الخارج، بعد انكشافها. كل هذه الخبايا والخفايا يحتويها الجزء الثالث من هذه الشهادة الحصرية.
ــــــــــــــــــــــ فـاروق مـعـزوزي ــــــــــــــــ
كيف تدفق السلاح على الأوراس، وما هي قصّته من الجذور إلى الأصول؟
بعد هزيمة رومل في معركة العالمين بليبيا سنة 1942، تركوا شحنة سلاح ضخمة حتى انه يقال إنه تركها عن قصد حتى يستفاد منها الجزائريين إذ رغبوا يوما في خوض ثورة ضد الفرنسيين نكاية فيهم، وقد تم تخزينها في الرمال من طرف الليبيين، وكذالك مخلفات سلاح الجيش الايطالي، وكانت العلاقة بين الجزائريين والليبيين مفتوحة وميسرة، فتم بيع الأسلحة للجزائريين، وكانت أغلب وجهة هذا السلاح نحو الأوراس، الذي كان تحت موروث اجتماعي يعتنق مقدسان ثابتان “البندقية والمرأة”.
ما هي خلفيات الدّور المبكر والطلائعي لبن بولعيد في قضية السلاح الذي كان – وقتها – عزيزَ المطلب؟
بعد التحاق بن بولعيد بالنضال سنة 1947عن طريق مسعود بالعقون رئيس القسم الثاني بأريس ممثلا عن حزب الشعب، أصبح بن بولعيد يفكر في الثورة فأصبح يشجع رجاله الذين يثق فيهم، من بينهم عاجل عجول، عثمان كعباشي والشيخ مدور، وعمار الماشينوار ووعمر كحول ولخضر بن علي علاوة وعجوي مدور آخرون على اقتناء السلاح، فقام بشراء كميات معتبرة من السلاح بماله الشخصي، وتم تخزينها في “المطامر” عند أبناء عمومته في الريف، والكثير من هذه الأسلحة نقلها بن بولعيد شخصيا عبر سيارته – في مغامرة منه – إلى منطقة القبائل، كونه كان مناضلا بارزا، وتحت مراقبة الإدارة الفرنسية، والدافع لذالك إيمانه الصلب بأن قضية السلاح عزيزة جدا، وإذا تم القبض عليه يتحمل المسؤولية وحده، كما أبرم اتفاقا مع رفقائه المناضلين لشراء السلاح وتخزينه في مدينة وادي سوف بأموال الحركة (المنظمة الخاصة)، وقد أشرف على تخزينه احمد بن الحاج.
ما هو نوع السلاح الذي تمكنوا من شرائه وتخزينه؟
أما أنواع السلاح، كانت الستاتي من صنع إيطالي والخماسي من صنع ألماني والعشاري من صنع انجليزي (كميات قليلة) هنا يمكن التنويه بأن السلاح الذي تم اقتناؤه من طرف المواطنين كان يشترى بأموالهم الخاصة، وكان عدده قليلا، أما ما تم شراؤه من أموال المنظمة الخاصة فكان بكميات ما تيسر منها.
كيف كان السلاح يشقّ طريقه من ليبيا إلى الأوراس على امتداد ما يربو عن مسافة 1500كلم، في ظروف صعبة وخطيرة؟ !
ينطلق السلاح من ليبيا، يمر عبر وادي سوف، ثم يتجه نحو الزاب الشرقي (الفيض وزريبة حامد وبادس وليانة والقطار) وله طريقين لا ثالث لهما حتى يصل إلى أعالي الأوراس.
مقاطعا..اذكرهما – إن تكرمت – بالشرح والتفصيل؟
كليهما ينطلقان من الزاب الشرقي، فالطريق الأول هو المسلك الشرقي عن طريق الولجة الواقعة في وادي العرب فوق مدينة خنقة سيدي ناجي، وقد ساهم أبناء الولجة في تأمين قوافل السلاح، من بينهم السوفي عبد الحفيظ نائب عجول (أعدم بوادي الصومام رفقة عباس لغرور) وعبد الوهاب عثماني (من نواب عجول)، هو من أرسله بن بولعيد بعد خروجه من السجن إلى منطقة سوق هراس لتهيئة مؤتمر إذا وافقت عليه الولايات، وهو ذاته طريق عجول لأن والده كان يملك بستان نخيل في الولجة، يشق السلاح طريقه إلى غاية كيمل وبني ملول في الجنوب وينتهي به إلى عرش كيمل ثم يوزع السلاح، ويباع ويشترى، أما الكمية الموجه لبن بولعيد فيستلمها بعجي محمد بن لخضر(عضو لوس) ليرسلها له عن طريق رجاله، أو عبر بعض التجار الذين كان يحرضهم بن بولعيد على الاتجار بالسلاح.
ماذا عن الطريق الثاني؟
هو الطريق الغربي، لكنه ينطلق من الزاب الشرقي، ويبدأ من قرية الدرمون شمالي زريبة الوادي صعودا إلى غابة كيمل وهي طرق غابية معقدة، وينتهي السلاح إلى عرش كيمل في الشمال، ليوزع على القبائل المجاورة بني ملول – بني ملكي – بني بنو سليمان، وظل جلب السلاح من ليبيا مستمرة من سنة 1942 إلى 1954.
كيف تصرفت القيادة الحزبية مع قِطع السلاح المنتشرة عند المواطنين عشيّة التحضير للثورةفي ظل شّح قطع السلاح؟
سبق وأنا ذكرنا أن البندقية والمرأة مقدستان عند عائلات الأوراس، فكل عائلة كانت تملك بندقية على الأقل. بالمقابل، كانت الحركة مطلعة بالتفصيل بالقطع المنتشرة في العائلات، ولما قرر بن بولعيد تفجير الثورة في الأوراس، طالبوا من أصحاب السلاح إما أن يلتحقوا بأسلحتهم وأنفسهم، وإما أن يتنازلوا عليها لصالح الحركة، وهذا التخيير لم يكن قرارا ملزما بل عبر وسائل التحسيس والدعاية والتعبئة والتجنيد الطوعي.
كيف كان ردّ فعلهم على الخَيارين؟
أغلب شباب المنطقة كانوا مقتنعين بحزب الشعب الذي يتطلع للاستقلال، وقد كان منهم المتعاطفين ومنهم المناضلين، إلا قلة منهم كانوا مع الفرنسيين (عيون الاستعمار)، وليلة الفاتح من نوفمبر تم استدعاء المناضلين المهيئين لتنفيذ العمليات من الأقسام الثلاثة، تحت قيادة عباس الغروس وعاجل عجول وطاهر غمراس، حتى يختارهم بن بولعيد شخصيا.
مقاطعا..كيف تم اختيارهم وعلى أي معيار وبأي مقياس؟
تم اختيار المناضلين المهيكلين بأمر من بن بولعيد بعد تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات (8اشهر قبل اندلاع الثورة)، فأما القسم الأول فيتكون من مجموعة مقاتلين أشاوس قد اختارها بولعيد لتنفيذ الهجوم ليلة الثورة، أما المجموعة الثانية فهي مجموعة الاحتياط، مهمتها تعويض القسم الأول في حالة استشهادهم أو القبض عليهم، أو يتم تجنيدهم لاحقا بعد أن تتوسع العمليات، وأما القسم الثالث فهي مجموعة السريين، الذين يبقون في صفوف المجتمع بهدف التعبئة والتحسيس والدعاية وجمع الاشتراكات، ورصد الأخبار وجمع المؤونة والتجنيد والكشف عن الخونة.
بعد التقسيم وإعداد الرجال والسلاح، ما هي الخطوة التي قام بها بن بولعيد؟
بهذا الإعداد، أصبح بن بولعيد متأكدا بأن الأرضية التي تنطلق منها الثورة أصبحت جاهزة، وفي هذه الظروف صعد بن بولعيد إلى الجزائر العاصمة صيف 1954 من أجل عقد اجتماع مجموعة 22 والإعلان عن اتخاذ القرار النهائي للاندلاع الثورة.
هل كان المناضلون على علم بموعد الثورة الوشيك؟
كان المناضلون الذين يعدّون للثورة رفقة بن بولعيد على علم بدنو أجل الثورة، من خلال ورشة الاستعدادات والتحضيرات، ومن خلال حضورهم للاجتماعات واللقاءات.
عطفا على كلامكم، في هذه الأثناء كان الحزب منقسما بين المصاليين والمركزيين، كيف تصرف بن بولعيد في ظل هذا الانقسام الحاد؟
في هذا الظرف الحساس وتداعيات الانقسام بين المصاليين والمركزيين، كانت وصية بن بولعيد للمناضلين كالاتي :أن لا يدفعوا الاشتراكات للجهاز المركزي وأن يحضروا اجتماعات الحزب كمناضلين حياديين، فكانت الخلية تجتمع كل 15 يوما والفوج كل 20 يوما والقسم مرة في كل الشهر، وكانت تفتح الاجتماعات باسم مصالي للتمويه حتى لا يلفتون انتباه الطرفين الفرنسيين والمصاليين على حد سواء، بأنهم يعدون العدة للثورة، فالفرنسيون سيقمعونها، والمصاليون سيعطلونها تحت يافطة “نحن الثورة”.
ماهي خلفيات قرار بن بولعيد القاضي بعدم دفع المناضلين الاشتراكات وحضور الاجتماعات بصفة حيادية، وما الهدف من ذالك؟
مبرراته مردها ما وقع عشية انكشاف المنظمة الخاصة لوس سنة 1950.
مقاطعا..ما الذي وقع بالذات؟ وما علاقته بقراره سالف الذكر؟
عند اكتشاف المنظمة السرية من طرف المصالح الأمنية الفرنسية التي شنت حملة اعتقالات ومطاردات وعملية بحث وتفتيش دقيقة طالت مئات من المناضلين، قرر الحزب حل المنظمة الخاصة مباشرة، وقد امتعض واعترض عناصر لوس على هذا القرار، ولم يكتفِ الحزب بحلها فقط، بل طلب من أعضائها اللذين صاروا مطاردين إما بتسليم أنفسهم وبالمقابل يترافع محامون لصالحهم، وإما تسفيرهم خارج الوطن.
كيف كان رد فعل بن بولعيد، وهو الوحيد الذي لم تكتشف خليته ” لوس الاوراس”عبر الوطن؟
هنا، كان موقفه حازما وحاسما، حيث أعطى بن بولعيد أمرا وقرارا ملزما لمناضلي المنظمة الخاصة بالاوراس يقضي بأن لا يسلموا أنفسهم ولا يهاجروا، وأن يعدوا أنفسهم لتفجير الثورة التي باتت على وشيكة.