ما بين 5 أكتوبر 1988 و22 فبراير 2019 مسافة عدمية لا تقاس بالوعي العارف بالأحداث والمتغيرات الضرورية التي من شأنها تفادي الوقوع في المطبات نفسها..
إنما تقاس هذه الفترة، المقدرة بواحد وثلاثين سنة من اللاجدوى، بنوع من العبث الذي يميز بعض الأنظمة التي لا تبصر سوى نفسها في مرايا التاريخ، أي الأنظمة الاستبدادية على اختلاف منظوراتها وممارساتها، أو تلك التي لا ضمير لها، ولا معرفة بالسنن التي تتحكم في العلاقات السببية بالمفهوم الخطابي، أو بالعلل والمعلولات بالمفهوم المنطقي، قديمه وحديثه.
لقد تحدث المفكر الروسي تشيرنيشيفسكي، في هذا الشأن، بنوع من البساطة المؤثرة، وبشيء من العبقرية النادرة، عن أمر جلل يدخل في باب الحتمية المنتجة للمعنى، وقد أطلق عليه مصطلح النمو الحلقي، وهو يخص المعارف والثقافات والسياسات والاقتصاد والفلسفة، وما كان ذا علاقة بالعقل المنفتح على التناقضات والممكنات المركبة التي لا تؤسس على الأحادية كرؤية يقينية غير قابلة للنقض، مع ما لليقين من تدمير للمبادرة والعبقرية والاختلاف كحتمية لا يمكن القفز عليها من حيث إنها ضرورة وجودية.
وأمّا النموّ الحلقي فيقصد به اتكاء كل حلقة تاريخية بسابقتها بحيث تكون نتيجة منطقية لها، ومقدمة لحلقة جديدة ستؤسس عليها الحلقات التالية التي ستتحول إلى نتائج، ثم إلى مقدمات لما سيأتي من تغييرات للنموذج القائم. إنها، بشكل ضمني، نفي للمعيار المتواتر، مهما كانت قيمته. كذلك تتشكل الحضارات التي لا تؤمن بالحلقة التي تكرر نفسها بعدة أشكال والتواءات، أو بما أطلق عليه أدونيس في كتابه الثابت والمتحول: التنويعات على الأصل ذاته، أو ما أكد عليه النقاد الشكلانيون في الأربعينيات من القرن الماضي بقولهم: الأنوية الثابتة في النموذج الوظيفي، تلك التي لا تتبدل ببعض التغييرات البنائية التي لا تأثير لها على الدلالات الجوهرية، ما يعني استمرار المخرج الإله، بالمفهوم المسرحي، أي الكائن الكلي الحضور والمعرفة، من المنظور السردي.
المسار السديمي الذي شهدته الجزائر من 5 أكتوبر 1988 إلى 22 فبراير 2019 هو صورة عن هذه الحلقة المعادة من زوايا مختلفة، أي الشخصية الواحدة ولعبة المرايا، وهو ما أنتج، بشكل مختلف إلى حد ما، كل سنوات الجمر التي أسهمت في تدمير البلد ومقدراته. لقد ظلت الأسباب قائمة، بل تعمقت أكثر في ظل استبدال الصنم بالصنم والخطاب الميت بالخطاب الأكثر موتا، ومن ثمّ سفسفة السياسة والاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية برمتها، ما أدى إن انسداد عام ناتج عن حالة من الملل واليأس. وكان يمكن، لولا تقدم الوعي وتأطير الحراك بشكل حضاري لافت، أن تتكرر المحنة الوطنية بالطريقة ذاتها التي شهدتها التسعينيات. لقد تجنب البلد مأساة أخرى، لكنه لن يتخلص منها نهائيا إن ظلت الأسباب قائمة: المعلولات لا تتغير إلا بتغير العلل، ما يستدعي تغييرا بنيويا جذريا لاستبعاد النتائج الواحدية حتى لا تصبح قدرا محتوما، ومصيرا مخططا له في مكاتب الكبار والأتباع.
نتذكر جيدا التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة 1968 في فانسان بفرنسا، ثم في فارسوفيا لاحقا في عهد النقابي لاش فاليزا، ثم في بلدان أوروبية أخرى لم تعد منسجمة مع محيطها الخارجي وحكامها الذين لم يكونوا في مستوى ثقة الأمم. لقد أصبح هؤلاء الزعماء يستمعون لصوت الشعوب التي أوجدتهم لخدمتها، زعماء لا يقفزون على الدساتير والقوانين والأجهزة القضائية، أو يتخذونها مسوّدات ظهيرة لتمرير رؤاهم الذاتية، أو القبلية، أو رؤى العائلة الكبيرة كما سماها أحد الوزراء القدامى بنوع من السخرية السوداء، كتدليل على الدائرة المغلقة التي تنتج المسؤولين والرؤساء الذين يعبثون بالقيم، وبالشعوب المنكوبة التي هاجرت إلى الميتافيزيقيا هربا من الواقع الموجع، الواقع الذي تجاوز السريالية إلى مرحلة من الدادائية العابثة.
لو حدث أن اتخذت الأنظمة الجزائرية أحداث أكتوبر مرجعا لها ومتكأ لتصحيح أخطائها، العفوية والمقصودة، وهذا مستبعد لطبيعة العقلية المهيمنة، لما ظهرت ثورة الابتسامة، أو الثورة البيضاء. لقد ظلّ الممثلون يصنعون مشاهد هزلية متضخمة، غير آبهين بالتفسخ العام، بالتراجيديا الحقيقية التي يعيشها الوطن نتيجة التسيب والريع والاختلاسات الممنهجة، وفي الوقت الذي كانوا يتحدثون فيه عن الثوابت الوطنية والمرجعية النوفمبرية الخالدة، كان العمى هو الذي يفكر ويخطط وينفذ، العمى والأموال المنهوبة التي جعلت شباب الحراك يردد جملته الشهيرة: “كليتوا لبلاد يا السراقين”.
لم تستغل ثورة أكتوبر، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا حتى فنيا، بصرف النظر عن بعض خلفياتها، ولم يتحدث عنها الأدب كفاية، رغم أهميتها التحويلية اللافتة، باستثناء بعض النصوص القليلة، ولو كإشارات، ومنها رواية غدا يوم جديد للمرحوم عبد الحميد بن هدوقة. في حين بدا أن هناك اهتماما أكبر بحراك فبراير: الشاعر والأكاديمي المهاجر أزراج عمرو و الكاتب عبد الرزاق بوكبة مثلا، إضافة إلى أسماء كثيرة أولت للموضوع أهمية قد تظهر قريبا في كتب مستقلة، وقد تكون مهمة في تحليلها للثورة التي فاجأت الجميع، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين أو بهاليل أو همّلا. هل سيستفيد المسؤولون من حراك 22 فبراير لتقويم العوج العام الذي قوّض البلد وجعله أضحوكة؟ أم أنه يتحتم علينا أن نردد بأسف شديد ما قاله القدامى: لن يستقيم الظل والعود أعوج…أو: لا يصلح العطار ما أفسده الدهر. نحن حاليا في مفترق الطرق، كما الغرباء، أو كغيمة الصيف، لا هي إلى البر ولا هي إلى البحر. لكننا نأمل أن لا يضيع 22 فبراير في هذا الزحام، دون أن ننسى أننا عرب ليست لهم قابلية التنازل عن المصالح الشخصية خدمة للبلد، دون خلفيات بهيمية متجذرة فينا منذ القدم.
السعيد بوطاجين