حاوره عبد الحفيظ عبد السميع
س: أسألك عن أحداث أكتوبر 1988 التي مرّ عليها ما يقارب الثلاثة عقود، فقد تبين لنا من بعض الشهادات التي انتشرت مؤخرا، أنّ بعض الإسلاميين قد تورطوا في أحداثها، وهو ما أشرت إليه في كتابك “مدارك النظر” فهل لك أن تذكر لنا تلك الأحداث، ومن الذي تورط فيها من الإسلاميين؟؟
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.:
بعد أن ظهرت مشكلة 5 أكتوبر المشتهرة في بلادنا، خرج الناس فيما خرجوا فيه، في عدّة أحياء شعبية بالخصوص، متظاهرين بأنهم قد ملوا الحكم السائد، وأرادوا التغيير، هناك ظهر علي بن حاج الذي كانت له جمهرة من جهة، واللسان الشعبي من جهة أخرى، وله العاطفة الجياشة، وإن كانت فارغة من العلم، كفراغ عامة الناس الذين عندهم شيء من التعاطف الإسلامي ولكن بلا علم.
علي بن حاج استغلّ تلك الثروة الشبابية وجمهرة الناس ليدعوهم للخروج في مظاهرة، وزعم أنها سلمية، وهذا طبعا من نقصان العقل، المظاهرات غالبا لا تكون سلمية، وقد تبدأ سلمية ثم تنتهي دموية، وقد كان الأمر كذلك، وفي ذلك الوقت استشار الشعب استشارة غبية جدا، حيث قال: إذا وافقتم فكبروا .. وإذا لم توافقوا نرجع إلى بيوتنا.. فالناس طبعا كبروا لأن الناس متعاطفون معه ويريدون أن يصلوا إلى مستوى معيشي طيب، ويظهرون ذلك ويبرزونه في صيغة دينية، وإلا نحن نشهد كلنا حاكما أو محكوما بأن القصور موجود، والنقصان موجود في بلادنا بلا شك، وكلٌّ نتقاسم الخطأ، لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بأن نقوم بهذا الدين فقصّرنا فيه، كلّ مقصر سواء كان الموظف في وظيفته، أو الحاكم في حكومته، أو العامل أو الراعي غنم، كلنا فيه نوع من القصور مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راعي وكلكم مسؤول عن رعيته” كل إنسان له مسؤولية ولو على نفسه، ولو كان أعزب، فله نفسه وهو مسؤول عليها في إصلاحها، ونحن ما قمنا بهذا الإصلاح، فحصل الخلل، لكن الناس دائما يمسحون السكين ـ كما يقال ـ في الحاكم، هو المسكين .. كلّ شيء يُعلق على ظهره، نودُّ أن يكون عندنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الذي يحكمنا، لكن الله تعالى يقول: “وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون”
فحصل الذي حصل، وخرج الناس في تلك المسيرة غاب عنها علي بن حاج، وأنا أعرف الشخص الذي غيّب علي بن حاج، لأنه استشارني فقلت له: إذا استطعت أن تخرجه خارج العاصمة حتى نخفف من الفتنة فافعل.
س: إذن كانت لكم تحركات ضد تلك المسيرة التي دعا إليها الشيخ علي بن حاج ومن معه؟؟
نعم .. في خِضَمّ تلك المسيرة قبلها بقليل، ذهبت إلى مسجد صلاح الدين الأيوبي ببلكور (بلوزداد) وكان هناك الهاشمي سحنوني، فأنا أوكلت بأحد الإخوة أن يأخذ علي بن حاج حتى يخففوا من الشر، وذهبت إلى الهاشمي سحنوني وبعض من كان معه من المؤطرين كما يقال في ذلك الوقت، وقد وجدته عند بيت الوضوء في المسجد، فنصحته قلت له: لقد استشرنا علماء كبار في هذا، وكلّهم قال كلمة واحدة، ينبغي ترك هذه المسيرة، للمفاسد التي تترتب عليها، وأنّ طريق التغيير ليس هو هذا، فقال كلمة بدوية في ذلك الوقت، قال: كما لكم علماء .. لنا علماء، هكذا جامدة .. ما أراد أن يأخذ ويعطي معي، قلت: من علماؤكم الذين قالوا لكم بالمسيرة؟ قال: الشيخ عبد الرحمان عبد الخالق والشيخ محمد قطب، قلت: سبحان الله! بئس الشيوخ الذين تتبعهم، تترك العلماء الكبار، قلت: نحن أخذنا الفتوى من الشيخ محمد ناصر الذين الألباني الذي هو اليوم محدث العصر بلا منازع، وعلمه في هذا بلغ الأفاق، وفتوى من الشيخ عبد العزيز بن باز، وفتوى من الشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله على الجميع، كلّهم قالوا قولة واحدة: اتركوا هذه المسيرة، طبعا الرجل وجدته متحمسا لما كان فيه، وما رضي بكلامي .. فقلت: أنا أبلغتك وشأنك والعامة، وعندها خرجوا .. وطبعا حصل الذي حصل .. ومات هناك عدد ليس بالقليل للأسف الشديد. وهذه هي بداية الفتنة.
والشيء الذي أذكره في خضم تلك الأحداث، أنني في إحدى الجمع، استخلفت غيري ليقوم بالخطبة لأنني كنت مريضا، لكنني لكثرة ما كان يرد علينا من أسئلة من قبل الشباب، الذين ابتلوا بسماع علي بن حاج وجماعته في الخروج في المظاهرات والمسيرات وما إلى ذلك، فقلت كلمة مختصرة بعد خطبة الجمعة: قلت: لا أستطيع أن أتكلم كثيرا، لكن طريقة الإصلاح التي هي سلوك مسلك المظاهرات والمسيرات ولا ريب أنّها ستؤدي إلى الدمويات، طريقة المعتزلة والخوارج، وليست طريقة أهل السنة والجماعة. هذا كلام أخذناه من أهل العلم، المعاصرين فضلا عن المتقدمين، فكان في عصر ذلك اليوم جاءني الشيخ الهاشمي سحنوني مع اثنين من شبابه، واستضفتهم في بيتي، وتكلم بطريقته المعروفة في ذلك الوقت، كان هجوميا جدا، وما كان يقبل الأخذ والرد.
قلت يا شيخ: الآن المناقشة تجدي، والسِباب والشتم لا يُجدي، أن تعطيني كلاما جامدا، دسما ثقيلا، بدون دليل .. ما أعطيتني شيئا، فالصُراخ وكثرة العويل لا يغني عن الحجة .. فحاولت أن أُلَيّن له القول، فقلت له: أنت الآن في مكتبتي، كنا في المكتبة، أنا الآن أستطيع أن أقرأ عليك كلام لابن تيمية رحمة الله عليه الذي تجله وأجله ويجله العلماء ويعرفون قدره، في الرد على هذا الطريق الذي تسلكنه الآن، فما أحار جوابا ولا أعطاني وجها كما يقال. قلت: نفتح الكتاب ما أراد، وكان أحد أتباعه موجودا عندنا، تَحَيّر وقال: يا شيخ عبد المالك، أنا الآن مُتَحَيِّر، أسمع شيخي يقول كلاما .. وأنت الآن تقول كلاما .. فجعلتموني في حيرة، قلت: هذه مشكلة إيغال العوام في هذه المشاكل الكبيرة كما يفعله شيخكم، كان المفروض أن لا يأتي بك، يأتي برؤوس جماعته، حتى نستطيع أن نأخذ ونعطي معهم، ولكن هذه هي مشكلة إيغال العوام في مثل هذه المشاكل الكبيرة.
س: ذكرت في بعض كلامك بأن الشيخ علي بن حاج تغير بعد خروجه من السجن؟ كيف ذلك؟؟
أذكر جيدا أنّ الشيخ علي بن حاج في ذلك الوقت أي سنة 1982 كان يقول – للجزأرة وجماعة النحناح: أعطوني دليلا واحدا من الكتاب والسنة وأنا معكم في المظاهرة، لكن المسكين .. لماذا زُجّ به في السجن، فقد كان يتعاطف معهم وينصرهم في ظاهر الكلام ويقول: إنّ هؤلاء إخواننا خرجوا ينصروا الدين، مع ذلك، كان هو في نفسه، غير مقتنع بأنّ المظاهرة تجوز، ثم لما أُدخل السجن – وأنا كنت صراحة – أظن أن دخوله السجن الذي مكث فيه خمس سنوات وزيادة، أنه سيُرَبِّيه، في اليوم الثالث من خروجه من السجن، أتى مسجدي، والحقيقة أنا كنت شبه متيقن أنّه سيتربى، لأنّ المِحن تربي الإنسان إذا كان عنده شيء من العقل، لكن إذا خفي العقل أو ضعف العقل عند صاحبه، فإنك تتصور فيه كلّ شيء .. فأعطيته كلمة في المسجد، كنت أظن أنّه سيتكلم كلاما طيبا، فكلامه سبحان الله غريب جدا، كان يقول: إخوانكم في السجون، يُسلِّمون عليكم، وادعوا لهم أن يُفرج عنهم، كان كلّ همه الكلام عن جماعة السجون .. وأنا أعلم أنهم أخذوا عليه عهدا إذا خرج أن ينصرهم، أنصر أخاك ظالما أو مظلوما في أي سبيل، فسألته وقلت له: لعلّك استفدت في السجن، قال: أما العلم فقد ضعفت عنه، وأما الوعظ فهذا سبيلي، أنا ارتبت .. ما هذا .. الإنسان المصلح إذا ما كان سبيله العلم سيفسد، يقول عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: “من عبَدَ الله على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح” ثم قلت له: ما هي قراءتك في السجن، قال: كنت أقرأ لسيد قطب ومحمد الغزالي والدكتور القرضاوي .. ذكر هؤلاء الثلاثة .. تعجبت .. قلت هؤلاء يا شيخ: ليسوا على مشربك .. هؤلاء حركيون معروفون .. هو فَطِن، وعلي بن حاج عنده خط الرجعة .. هو سياسي في الكلام، قال: لا لا أنا قرأت لهم لأنتقدهم، ثم بعدها بأسبوع .. يأتيني شريط له في خطبة الجمعة يستدل بهؤلاء ويذكرهم فيما يراه حقا، فعرفت عندها أنّه كان – في الحقيقة – يداهن ويداريني، ليدفع نقاشي له، في ذلك اليوم عرفت أنّ منهج الرجل قد تغيّر، وازداد في الحقيقة حدة، وزاد انحرافا. هذا شيء نذكره للتاريخ، والرجل نسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يهديه سواء السبيل، لأنّ السبيل الذي يسلكه الآن سبيل وخيمة، غير مُصلحة، والإفساد قد ظهر له لو كان يعقل، وظهر لكل عاقل، بل أصبح العوام أعقل منه، فالعوام الذين كانوا معه تركوه، وجزاهم الله خيرا، وحُقّ لهم ذلك، أمّا هو فلا يزال – كما يُقال – يدفع الجدار بصدره، هداه الله.
س: هناك معلومات بأنك وبعض المشايخ قدمتم له النصيحة وحذّرتموه من هذا الطريق؟ لو تذكر لنا كيف جرى ذلك؟؟
نصحت علي بن حاج وجالسته مرارا، ذهبت إليه وأتيت به، أكرمناه حتى نحاول أن نرجعه إلى عقله، ونصحت أنا بنفسي كذلك الشيخ الهاشمي سحنوني، ونصحت حتى الشيخ كمال قمازي وكثير، أكثرهم تكلمت معهم وجها لوجه، لكن المساكين سبحان الله العظيم، لما تناقشهم، أكثرهم ما كان يعارض معارضة واضحة لا سيما علي بن حاج، علي بن حاج طريقته ماكرة جدا، فكره هجومي دموي، وإذا تكلمت معه بعقل وشرع، يقول: نعم، وإذا خلا بجماعته يقول لا.
كنا مسكناه، قلنا: يا شيخ علي، نحن كلمناك في مجلس كذا، أترك هذه الطريقة، لا تهيّج الشعب، لا تثير الفتن، فيقول أنا معكم وهذا لا يصلح، ثم إذا ذهب إلى المسجد وألقى خطبته أو درسه، تكلم بلسان هجومي جدا، ويحرض، بعد ذلك استشرت بعض المشايخ الذين يعرفونه في حيّه، وكانوا يدرسون معه من الدراسة الثانوية، قالوا: هذا الرجل هكذا، إذا كنت معه ويعرف أنّك قوي الحجة، ما يمشي معك في النقاش، بل يوافق كما يقول أهل مصر: وافق حتى تفض المجلس، يقول نعم حتى يتخلص من نقاشك .. مرّة واحدة فقط ناقشناه وشددنا عليه في ذلك الوقت، قال: أنا عقيدتي عقيدة السلف الصالح وهذه العقيدة الطحاوية، قلنا له: أنت قلت في خطبة كذا وفي درس كذا، أشياء ذكرناها له، وقلنا لصاحب البيت: هات العقيدة الطحاوية، فقال: لا لا أنا معكم .. أوافقكم .. ما في داعي لإثارة هذا الموضوع .. ثم تكلم أحد الإخوان يَنصح له، قال له بهذا اللفظ، بعد ما تكلم حوالي 45 دقيقة، ذكر له أشياء آخذة عنده، قال هي مكتوبة عندي وأخرج ورقة من جيبه، وهذا التسجيل موجود، إن شئت أسمعناك صوتك، وإن شئت قرأت عليك ما نسخناه من صوتك، قال: لا .. أنت عندي ثقة، أصدقك، قال هذا الشيخ الذي اعترض عليه في الأخير: أنت الآن تسلك مسلك الخوارج المارقين المجرمين، بهذا اللفظ .. هو نصحه مرارا في الأول ما انتصح، فكان علي بن حاج عن يميني، كاد يسقط، نزع النظارة .. ثم قال: حوكمت محاكمتين، فما وجدت أشد علي من هذه، يعني محاكمة الدولة، ومحاكمة المشايخ والدعاة لي، ثم صرّح هناك .. المجلس الوحيد الذي صرح فيه بالمخالفة، قال: أنا أعتقد أني على الحق وأنتم على ضلال، قال الشيخ: ولكلّ وجهة هو موليها، عندها انتهى النقاش.
وكان أتاني إلى بيتي .. بعدها أيضا، وأراد أن يأخذ مني ما يأخذ، وقال لي: نحن نريد أن نخرج المساجين الذين سجنتهم الدولة، قلت: أنت تعرفهم .. هؤلاء المساجين، قال: أعرف بعضهم، قلت هل تعرف كلّهم أو أكثرهم، قال: لا أكثرهم لا أعرفهم. قلت: كيف تدافع عن أشخاص لا تعرفهم، ويجوز غدا .. أنت اليوم تخرجهم من السجن، بطريقة بمعجرة أو أخرى، لأنك أنت لست دولة، ولا داخل في هذا السلك، لو فرضنا أنك أخرجتهم من السجن، أليس من الممكن أن يُكفروك كما كفّروا الدولة، وما يسمونهم بأزلام الدولة، قال: لا .. لن يُكَفِّروا .. قلت: ممكن أو لا. قال: ممكن، قلت: كيف أنا أخرج من السجن رجلا ما استشارني لما أراد أن يدخل السجن حتى دخل، وثانيا: سأُحسب عليه إذا دافعت عنه، وأنا أخالفه في فكره، كيف أدافع عنه، قال: إخواننا، قلت: اترك كلمة إخواننا وعاطفيات، هذا شرع، تدافع عن أناس إذا خرجوا من السجن نشروا السلاح، وأراقوا الدماء، وفرّقوا الأمة، وحزّبوها، ثم كفّروا بغير حق، هذا لا يُعقل، قلت له، يا شيخ علي: أنا أقول لك كلمة، إذا أردت أن تنجح، الدعاة الذين سبقوك إلى الدعوة – وبعضهم علمك السنة لما كنت يافعا، شابا طريا – هؤلاء الدعاة .. لما تريد أن تعمل عملا جماعيا أأتني بهم، وسميت له: الشيخ محمد فركوس، والشيخ العيد شريفي، والشيخ أبو عبد الرحمان محمود الجزائري، سميت له هؤلاء الثلاثة، فقال: هؤلاء يعطلوننا، قلت: هذا هو الموجود عندنا، إن رضيت مشورة هؤلاء – أصحاب علم وأصحاب عقل وأصحاب تجربة – وإن لم ترضى بهؤلاء، أنا لا أشتغل معك، وخرج من بيتي .. والذي أذكر أنّ هذا آخر مجلس جمعني به.
س: بعد ذلك قامت هذه الجماعة بتأسيس حزب إسلامي، كيف كان موقفكم من ذلك؟؟ وكيف تعاملتم معهم؟؟
كان علي بن حاج يقول: حزب سياسي إسلامي عليه أنا يقصد نفسه، والشيخ محمود المعروف بالجزائري، وعبد المالك رمضاني والشيخ العيد شريفي، قال هكذا: حزب لا يُغلب، فأراد أن يجرّنا إليه، ونحن كنا نقول له: نحن نتكلم بالشرع، هذه أمة مسلمة لا نقبل بتفريقها بأيّ سبيل كان، وطريق المظاهرات ليس طريق إصلاحي، هناك بدأ مفترق الطرق بيننا وبين رؤوس الجبهة.
س: مع ذلك قاموا بتأسيس حزب إسلامي “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” ونالوا تعاطف الكثير من الشعب، كيف تفسّر ذلك؟؟
في خضم تلك المعارك الكلامية السياسية تمخضت أفكار كثيرة عند جبهة الإنقاذ وأتباعهم، وحقيقة لا ننكر أنه كان لهم الكثير من الأتباع .. وذلك أنّ الشعب الجزائري يحب الدين، ومن يأتيه بلغة الدين يكسبه، والشعب الجزائري لا يُلام كثيرا، لأنّه لا يعرف علي بن حاج ولا إلى أين يريد أن يسوقهم، ولا عباسي مدني ولا غيره، لا يعرفونهم، كلّ من يرفع اسم الإسلام ولواءه ويرفع عَلَمَهُ يكونون معه، إلا أنّ المشكل في أولئك الذين يستغلون العاطفة الإسلامية التي عند الشعب الجزائري ليأخذوه إلى مجزرة دموية وقد حصلت مع الأسف الشديد، فأوّل غلطة كانت ـ كما سبق أن بينا ـ لما استشاروا العوام وتركوا استشارة العلماء، وثانيا استشاروا الحركيين، الذين هم في الحقيقة حركيون يتحركون بغير علم، وهم يشهدون على أنفسهم بأنهم لا علم لهم، والحركيون هم الإخوان المسلمون على أصنافهم .. يشاورون هؤلاء ويتركون مشورة العلماء الذين أفنوا أعمارهم على الكتاب والسنة .. فمن هنا بدأ مستوى جبهة الإنقاذ ينزل دركات، ويأخذ به العوام، إلى أن وصل – كما تعلمون – في الأخير أن أخذ به الدمويون البدويون الأعراب إن صح التعبير، من أمثال عنتر زوابري وجمال زيتوني وغيرهما، ممن لا علم لهم إطلاقا بالشريعة الإسلامية، وخاضوا معارك دموية ومجازر كبيرة بهذه الأمة.
س: في سنة 1991 أعلنت الجبهة عن الإضراب، كيف كان تعاملكم مع ذلك؟؟
لما جبهة الإنقاذ، ما سمح لها أن تمارس بعض نشاطها السياسي، دعت إلى الإضراب عن العمل .. وكذلك دعوا في بعض السجون إلى الإضراب عن الطعام، ودعوا إلى المظاهرات والمسيرات، ثم من ذلك الوقت – في الحقيقة – بدأ العنف، هم اختلفوا: بعضهم يقول خليها سلمية .. وبعضهم يخوض غمار القتال، فيقتلون العساكر .. وفعلوا هذا حتى في الإضراب الذي كان في ساحة أول ماي، داهموا بسياراتهم بعض العساكر وبعض الشرطة، وسبحان الله .. من حسن حظهم لو كانوا يعتبرون، أنّه أذيع في ساحة أول ماي: كلام الشيخ الألباني رحمه الله، فتواه في ما هم فيه من الاعتصام .. وناداهم بكل قوة: أن ادخلوا بيوتكم واتركوا ذلك، وكانوا يتضاحكون، عالم جليل ينصح لهم .. لو اعتبروا بكلامه، ونحن نقلنا كلامه أيضا في مساجدنا، وكنا استفتينا حتى الشيخ أبا بكر الجزائري .. وأعطانا فتوى قوية وصريحة جدا .. وأسمعناها الناس في المساجد، كنا مضطرين أن نُسمع كلام أي عالم ينصح نصيحة شرعية، فيها لين ورفق، وهي نصيحة إصلاحية، طبعا في ذلك الوقت هم كانوا يضحكون علينا يقولون: نحن الآن سنصل إلى الحكم، وكانوا يكتبون على الجدران: دولة إسلامية قاب قوسين أو أدنى، مساكين .. يظنون أن الدولة الإسلامية تقوم على الفوضى.
س: ذكرت في جوابك من قبل: جماعة الجزأرة، من هي هذه الجماعة؟ وما هو فكرهم؟ ومن هم شيوخهم؟؟
الذي وددنا أن يعلمه أهل بلدنا قاطبة، والذين قد يكونوا ابتلوا بفكر بعض أهل الفتن في هذا العصر .. أن هناك فرقة أو جماعة، تسمى الجزأرة، أو تُلقب بالجزأرة، والحقيقة أنّ هذا ليس اسم جماعة تسمّت به، وإنما سُمّيَت به، ويقال: أنّ أول من سماهم به هو الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وذلك لما اختلف معهم، حيث كانوا جماعة واحدة، وهم ينتسبون جميعا إلى جماعة الإخوان المسلمين، والإخوان المسلمون كما هو معلوم، جماعة ينتهجون النهج السياسي في الإصلاح، يرون بأنّ الإصلاح السياسي هو الكفيل بردّ الأمة إلى حظيرة الإسلام، ورد الحق إلى نصابه .. ولذلك جل صراعاتهم مع الحكام، وقد يبدؤون صراعهم صراعا سياسيا ثم ينتهي دمويا كما حصل في تاريخهم منذ عهد بعيد، منذ مقتل أول وزير هناك في مصر والذي هو النقراشي رحمه الله، إلى يومكم هذا، وهم بين مدّ وجزر، مرّة سياسيين .. ومرة دمويين .. لكن يغلب عليهم العمل السياسي – كما يقول بعض السياسيين – تسييس الدعوة.
فالجزأرة جماعة من الإخوان المسلمين، همهم الأكبر الوصول إلى الحكم وإسقاط الحكام الموجودين على نفس النفس الإخواني، وسموا جزأرة نسبة إلى الجزائر .. لأنهم قالوا: لا نرضى بأن ننتسب إلى الإخوان المسلمين العالميين، رضوا بأن تكون إخوانية جزائرية .. لا أن تكون لهم وصاية من إمارة مصر التي هي الإمارة العالمية للإخوان المسلمين، لكن الهدف واحد، كلهم يعمل في الحقل السياسي لإسقاط حكام زمانهم والوصول إلى الحكم .. إلا أنه كان الشيخ محفوظ نحناح يضحك عليهم لأنه يراها نوع شعوبية، إذ جعلوا الدعوة جزأرية أي جزائرية مجزأرة، هو كان يُنَكّت بهم في هذا المجال، ويرى بأنّ الدعوة تكون عالمية، هم لم يرضوا بذلك .. اختلف هو والشيخ عباسي مدني في هذا المجال، وذلك لأن كلا منهما كان يرى أن الإمارة ترجع إليه، فوقع الخلاف، وكان الإخوان التابعون للشيخ محفوظ نحناح عالميين، ولهم تبعية للخارج، وكان الآخرون إخوانا جزائريين، لكن الأعمال واحدة، لا يهتمون بالعقيدة، تجد فيهم الصوفي، تجد فيهم الأشعري، تجد فيهم أنواع الطرقيات، تجد فيهم تأييد للمبغضين لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم “الروافض” وكان من أسباب إحلال بعض الأفكار الرافضية في هذه البلاد، هم الإخوان المسلمون، سواء كانوا عالميين أو جزأريين، لأنهم تعاطفوا تعاطفا بالغا جدا مع ثورة الخميني وما تبعها .. وما كانوا يصغون لأهل السنة والجماعة حين كانوا يحذرونهم من الفكر الرافضي، كانوا يقولون أنتم تفرقون الأمة، هذا دائما دأبهم في هذا المجال، لكن خلاصة الكلام أنّ الجزأرة لا يهتمون بالتوحيد، وأكثرهم على المذهب الأشعري في الأسماء والصفات وغير ذلك، وتجد فيهم الصوفي وغير الصوفي، لكن همهم الأكبر هو هم سياسي.
س: يذكر البعض أنّجماعة الجزأرة كانت تهتم بجانب التعليم، خلافا لجماعة الإخوان، ما قولك في ذلك؟؟
الذي أذكره في سنة 1982 لما خرجت جماعة الجزأرة، وكان هناك تأييد من جماعة الإخوان المسلمين العالميين، خرجوا في اعتصام أو شبه تظاهرة، عند الجامعة المركزية بالعاصمة، اجتمعوا هناك وطلبوا من الحكومة 14 بندا، وحصل هناك تجمّع كبير وأخافوا السبيل، ثم الحكومة أخذت بقبضة من حديد .. وسُجن من سُجن .. وفُتن من فتن .. وتفرقت الأمة، واضطرت الجزأرة أن تغيّر من مسيرتها وطريقتها في التعليم، حيث كان جلّ كلامهم في الأول: سياسي .. وتحريض .. وكلام في الحكومة، أكثر كلامهم في هذا، ثم لما رأوا بأنّ الأمر فيه نوع من القساوة، غيروا منهجهم، صاروا يُعلّمون بعض العلوم الشرعية من باب التغطية فقط، على ما في باطن دعوتهم.
س: من هم شيوخهم، وكيف التحقوا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ؟؟
أبرز الأعضاء الناشطين في الجزأرة الشيخ محمد السعيد وناس رحمة الله عليه، كان من أبرز خطبائهم التابعين لهذا الفكر، وكان الزعيم الروحي لهم الشيخ أحمد سحنون رحمة الله عليه، هذه خلاصة .. وفي الحقيقة أنه كان لهم نشاط كبير في الجامعات، والصراع الذي ظهر وبيّن الخلاف بين الإخوان المسلمين العالميين والإخوان المسلمين الجزائريين، كان يظهر قويا في الجامعات .. حيث سيطروا على جميع مصليات الجامعات، ولا يسمحون لأحد يخالف فكرهم أن يقول كلمة .. بل ولا أن يصلي بالجماعة هناك .. فسيطروا على هذه القطاعات إلى أن برز التعدد الحزبي السياسي فانطلقوا إليه، وتركوا هذه المجالات الدعوية في المسجد وغيرها إلى حد كبير، وأنا أذكر أنّ أحد أتباعهم من الجزأريين كان بيني وبينه جوار في الحي، استشارني في دخول الشيخ محمد السعيد رحمة الله عليه في جبهة الإنقاذ، قلت له لماذا؟ قال ليكون عاملا كالحماية المدنية، أي يطفئ النار، قال بالعبارة ذاتها: “لكي يحدّ من جنون الرجلين عباسي مدني وعلي بن حاج” طبعا هو أخفى عني شيئا كنت أعرفه، وهو أنهم أرادوا أن يحتووا جبهة الإنقاذ.
قلت له: أنا أنصحكم أن لا يدخل، لأنه إذا دخل سيُجر إلى باب لا يريده، قال:لا .. سَيُطْفِئ النار، قلت لن يقدر .. وأقل شيء عند الدولة سيُحسب على علي بن حاج وعباسي مدني، وسيكون مثلهم عند الدولة وسيضيع ويضيعونه، فما سمع الكلام، ومعروف أن الإمارة التي كانت عند “الجيا” الجماعة الإسلامية المسلحة .. فطِنت لمحمد السعيد واغتالته كما هو معلوم وكان في صلاة العصر، هذه خلاصة ما نعرف عن هذه الجماعة.