انطلاقا من الأدبيات الاقتصادية التي تُشير إلى الثروة بأنها كل ما يحوزه الفرد أو الأسرة من قيمة إجمالية من أصول مختلفة (سائلة كانت أو صلبة) والتي تمّ تجميعها وحيازتها كنتيجة لمراكمة الإمتلاك (عقارات، مساكن، سيارات أو ملكيات الرفاهية) أو كنتيجة للإدخار أو انتقال الميراث أو تلقى هبات، يمكننا توضيح المقصد بـ “الضريبة على الثروة” بأنها تستهدف الرصيد المتراكم للأصول المالية والعينية، وذلك عكس الضرائب على الدخل التى تعتبر ضريبة على تدفقات الدخل الجارى.
كما أننا نجد الكثير من الحجج القوية التى تدعم إقرار “الضريبة على الثروة” سواء أكانت ضريبة على “حيازة قائمة” أم على “انتقال لحيازة الثروة وامتلاكها” أم على الزيادة فى قيمة الثروة. لكن تطبيقاتها ومدى نجاحاتها تتضارب حولها التقيّمات والخلاصات. حيث نجد صعوبة بالغة في تقييم “الضريبة على الثروة” في العديد من البلدان النامية لأنها إما غير موجودة أو غير مُفعّلة أو أن تطبيقاتها غير فعالة.
ومع ذلك، يمكن لبعض الأمثلة الواردة من كولومبيا وجنوب إفريقيا إعطائنا بعض الإرشادات حول كيفية تطوير نظام ضريبي فعال على الثروة. فقد أظهرت العديد من الدراسات حول “الضريبة على الثروة”، بما في ذلك “ضريبة الثروة الشاملة”، وخاصة ردود فعل الأثرياء عليها، لأنه كلما زاد ثراء دافعي الضرائب، زاد تهربهم الضريبي.
ففي كولومبيا مثلا، وجدت البلاد نفسها بحاجة إلى أطراف ثالثة (مثل المؤسسات المالية) بغرض تعزيز قدراتها على جمع المعلومات حول الوضع المالي لدافعي الضرائب والتحقق منها مع زيادة الحاجة للتحقق من أصول الشركات المملوكة للأفراد الأثرياء، بغرض ضمان عدم تخصيص الأسهم والودائع لأطراف أخرى لإخفاء الثروة.
وأخيرًا، تمّ التوصل إلى منظور يبيّن أنه يمكن استخدام قرارات العفو الضريبي لإقناع الأفراد الأثرياء بالإعلان عن الأصول المملوكة لهم، كما وُجد أن اللجوء إلى إقرار “العفو الضريبي” من خلال السماح بالتخلي عن المطالبة بضرائب سابقة مستحقة والتي لم يتم تحصيلها بعد سيمكن من تسجيل الثروة بما سيمكن من فرض ضرائب مستقبلية.
كما نجد جنوب إفريقيا لزالت تكافح من أجل فرض ضريبة فعالة على الثروة، حيث يجري حاليا في البلد تطبيق رسوم على التحويلات المالية ورسوم جمركية وضريبة على التبرعات والهبات، وكلها ضرائب على تحويل الثروة، لكن فرض “ضريبة على اكتناز الثروة” لم يطبق للحد الساعة، لكن عملية تتبع جميع الأصول والخصوم قائمة، وهذا من شأنه أن يساعد تتبع الثروة ووضع سياسة مستقبلية تُمكن من فرض ضريبة محتملة على الاحتفاظ بالثروة، ومن الممكن مباشرة العمل بها بدءً من السنة المقبلة 2020.
كما نجد في المملكة المغربية بأن “المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي” ضمن مسعى للإقامة “نظامٍ جبائي يشكل دعامةً أساسيةً لبناء النموذج التنموي الجديد”، قد أوصى خلال هذه السنة 2019 بإحداث “ضريبة على الثروة” بالنسبة للاستثمار غير المنتج، كالأراضي غير المبنية، والممتلكات العقارية الشاغرة، سواء كسكن رئيسي أو سكن معد للإيجار، وبعض السلع الفاخرة التي تعدُّ سماتٍ ظاهرة على الثراء، مثل اليخوت أو الطائرات الخاصة أو السيارات الفاخرة أو خيول السباق، وهي ممتلكات منقولة، لكنها غير منتجة من منظور اقتصادي، وضمن مقاربة التمييز بين الثروة المنتجة والمولِّدة للدخل وبالتالي الخاضعة للضريبة، وبين الثروة غير المنتجة بالنسبة للمجتمع، والتي لا تساهم في الضرائب فحسب، بل إنها قد تشكل عبئا على المجتمع.
أما على مستوى الدول المتقدمة، وخاصة على مستوى الدول الأوروبية، هناك العديد من الأشكال المختلفة لفرض ضريبة على الثروة، وهي نماذج من الممكن أن تكون مثيرة للاهتمام بالنسبة للبلدان النامية. على سبيل المثال، في هولندا، توجد ضريبة ثابتة تبلغ 1,2٪ على إجمالي قيمة المدخرات والاستثمارات التي تتجاوز (21 ألف) يورو، كما يتم استثناء الاستثمارات التي تصل إلى (56 ألف) يورو في مجالا “الاستثمارات الخضراء”.
وحتى عام 2017، كانت لدى فرنسا “ضريبة تضامن” على الثروة. لقد كانت ضريبة تصاعدية تبدأ من 0,5٪ من الثروة الموجودة فوق عتبة (800 ألف) يورو، مع اعتماد عتبات ومعدلات مختلفة أعلى من ذلك، حيث تفرض ضريبة بـ 1,5 ٪ على الثروة التي تتجاوز قيمتها (10 مليون) يورو. بينما تفرض كل من إسبانيا وسويسرا ضرائب على الثروات ذات طبيعة تدريجية وتختلف اختلافًا طفيفًا بين البلديات والمناطق، وتتراوح بين 0,2٪ و 3,75٪ في إسبانيا ، وبين 0,13٪ و 0,94٪ في سويسرا.
لذلك أجد أنه من الحكمة الإقتصادية اللجوء إلى إدراج “الضريبة على الثروة الشاملة والتدريجية” في منظومتنا الضريبية بدءً من قانون المالية لسنة 2020، مع ضرورة وضعها “مؤقتا” ضمن “سياق التضامن الضريبي” وبشكل “مستدام” ضمن منظور تحقيق جوهر العدالة الإجتماعية، ومسعى الحفاظ على الطبقة المتوسطة التي هي المحرك الأساسي للإقتصاد. كما أن هذه الخطوة تعد في نظري خطوة أولية في إطار مباشرة معالجة كلية شاملة “للمنظومة الضريبية الوطنية” بغرض تصحيح الإختلالات الهيكلية التي ترصص الآلة الإقتصادية لبلادنا وتعيق سلاسة دورانها، وهذا كله يستند في نظري إلى أساسيات أربعة :
أولا- الضريبة على الثروة تستند إلى “قاعدة العدالة الأفقية” أى المعاملة المتساوية لدافعي الضريبة، بأن ننشد منطق العدالة في الاقتطاع المالي بين الموظف المساهم في الوعاء الضريبي من خلال الضريبة على الدخل في المنبع، وهو الذي يكدح يوميا لصالح المجموعة الوطنية و الغني الذي يستفيد من خدمات هذا الموظف ليراكم الثروة.
ثانيا- تكريس ” فكرة العدالة الرأسية” أى الإنصاف في القدرة على المساهمة في الوعاء الضريبي من خلال نسب سلمية تصاعدية، بأن يتحميل كل من يملك “قدرة ضريبية أكبر” ضرائب أعلى.
ثالثا- الضريبة على الثروة تستمد فلسفتها من “مبدأ الزكاة” أي بإعتبار الضريبة على الثروة تفرض على الأصول بغض النظر عما إذا كانت تدر دخلاً أم لا، لذا فإن فرضها يشجع أصحاب الأصول على استغلالها استغلالاً منتجاً للحصول على دخل منها، لأنه سيدفع عليها ضريبة ثروة، ومن غير المجدى بالتالى تركها بدون استغلال.
رابعا- بمنطق العدالة الضريبية الأفقية والعمودية، هذا سيدفعنا إلى المزاوجة في فرض ضريبة بين الضريبة على الثروة و”تخفيض الضريبة على الأجور” فى الوقت ذاته، بما سيشجع أصحاب المؤسسات ورجال الأعمال على توسيع دائرة انتساب العمال إلى مؤسساتهم وأنشطتهم، وهذا عامل مهم سيساهم في خلق فرص عمل.
لكن في المقابل، ينبغي التنبه جيدا إلى المخاطر المحتملة المحفّزة لتخفي الثروة والتي ستغذي هروبها من الدوائر المالية الرسمية، لذلك يتعيّن على مقرري السياسات المالية، بالموازاة مع هذا الإجراء، مباشرة عمل منهجي لتجفيف منابع “اقتصاد الظل”، كما أن تطبيق “الضريبة على الثروة” يتطلب التقليل من عدد الإعفاءات، و وضع معدل وحيد للضريبة، على أن تكون سهلة الفهم والتطبيق، مع اعتماد أسلوب موحد ومنضبط لتقييم الأصول، مع إقرار عتبة “حد أدنى” للثروة الخاضعة للضريبة ومعدل حدي منخفض للضريبة.
مهماه بوزيان – باحث جزائري