ينشأ الإنسان على مبدأ التبادل و التفاعل مع كل ما يحيط به، و شيئا فشيئا يتعلم كيف يحب ذاته و يحرص على مصلحته، كأن يختار الطفل قطعة الحلوى الأكبر حجما أو يدخل في نوبة صراخ و بكاء أمام محل تجاري من أجل أن يحصل على لعبته المفضلة، وبالمقابل يتعامل الأهل مع هذه الحالات كلٌ حسب إدراكه. ولا يخفى على أحد أن صفات الطفل و أخلاقه كقطعة عجين يمكن تشكيلها على النحو الذي يريده الأهل ما لم يبلغ الحلم، وبعدها يكون قد فات الأوان و ستتولى الحياة مهمة التربية بدروسها القاسية و صدماتها المؤلمة.
ولا شك على العلاقات هي مرآة لشخصية الإنسان، فتظهر فيها أخلاقه و تعاملاته، الخيانة و الوفاء، السرقة و الأمانة، النميمة و السعي لإفساد أو إصلاح ذات البين، لابد أن تظهر في أوقات خاصة ولابد للمرء أن يكتشف معدن من يخالط و عليه يكون التعامل معه.
ظهر مصطلح العلاقات السامة للتعبير عن كل علاقة يكون طرف فيها مؤذيا بأي شكل من الأشكال للطرف الأخر، و الذي يستمر في تحمل الأذى كنوع من التضحية. الزوج النرجسي، الأم النرجسية، الأب المتسلط أو الصديق المستغل..هي صفات كانت و لا تزال موجودة ضمن منظومة العلاقات الإنسانية، وقبل ظهور هذه المصطلحات كانت تحت مسميات أخرى و كان التعامل معها بطرق سليمة وناضجة فكان تماسك المجتمع و صلابة البيوت و متانة العلاقات. لا يعني هذه أن الحقوق لم تكن محفوظة لأصحابها، بل كان هناك كظم الغيض و التحكم في النفس و دراسة ردات الفعل لأن عقل الإنسان كان أصفى و أنقى مما هو عليه الآن بسبب ظروف الحياة الهادئة و النقية. فالفوضى الاجتماعية التي نعيشها تؤثر سلبا على مستوى الكفاءة العقلية و عملية التفكير.
لطالما كانت هناك علاقات مؤذية لكن لم يكن التركيز على سلبياتها بقدر التركيز على استمرار الحياة بحلوها و مرها. و كان موقف فتى تجاه العلاقة المؤذية يفوق في نضجه رجلا في الثلاثين من عمره من أبناء اليوم. لأن الناضج يعلم أن الشكوى لا طائل منها و يعلم أن تدخل أطراف أخرى تزيد الطين بلة.
إن أكثر ما أفسد العلاقات بين الناس في وقتنا الراهن هو انتشار التصنيفات. التصنيف و إطلاق التسميات على كل حالة على حِدى. لأن التصنيف يعطي صورة نهائية و تشخيصا ذو طابع علمي غير قابل للشك أو إمكانية المعالجة كأنه حكم نهائي على ذلك الشخص.
حين تشتكي امرأة لصديقة أو حتى لمختصة من طباع زوجها فتقول الصديقة إنه زوج نرجسي لا يكون وقع الكلمة مثل قولها إنه زوج سيء الطباع، لأن مصطلح الزوج النرجسي أصبح حكما نهائيا بفشل العلاقة و عدم صلاحية الزوج، أما القول أن طباعه سيئة فهناك احتمالية للنصح و الصلح.
إن تصنيفات المنصات الإلكترونية حتى و إن كانت غايتها التنوير ومعالجة الظواهر الاجتماعية تؤثر سلبا على أصحاب المشكلات، لأنها في الظاهر تتجاهل حقيقة أن الإنسان له نقائص و كل ابن أدم خطّاء. من قبيل أنها تسعى لنشر الوعي و المعرفة، تؤدي مثل هذه التدخلات التي تعامل الحالات الاجتماعية كأنها حالات مرضية، تؤدي إلى زعزعة استقرار العلاقات الأسرية، فتحكم البنت على أمها و الزوجة على زوجها و الإبن على والده أحكاما قاسية. و المصيبة أن الجميع أصبح يشعر أنه ضحية علاقة سامة ليبدأ في رحلة بحث عن اسم تلك العلاقة بين صفحات التواصل الاجتماعي لعزز شعوره بالضعف و يتعاطف معه الأخرون.
بعض الصفحات التي تدعي الإرشاد و التوعية الإجتماعية تعزز الكِبر و الغرور لدى الشخص لدرجة أن ينسى أن له عيوب و نقائص كما للآخر، و إنه ربما يتسبب في أذى أحدهم كما تسببوا في إيذاءه. و العلاقات لا تقوم إلا على التسامح و الفرصة الثانية، و دون ذلك سيكون التشتت الأسري و الفوضى الاجتماعية بكثرة التجارب الفاشلة التي كان من الممكن أن تكون ناجحة ببعض التعقل و اللين.
إننا في كل مجال نتوجه إليه نجد لعالم التواصل الاجتماعي دخل في انتشار الفوضى و العشوائية بسبب كثرة المتحدثين ( مختصين و غير مختصين)، و كثرة النصائح و عرض التجارب الشخصية، فالحذر ضروري و دراسة الواقع و معالجة الحال منفردا يؤدي إلى وضوح الرؤية و استقلالية القرارات.
الحقيقة التي يجب وضعها نصب الأعين هي أن العلاقات الإنسانية قائمة على المصلحة و لا حرج في قولها، فمصلحة الأولاد في طاعة الأباء، و مصلحة الزوجين في بث روح التسامح و التعاون و مصلحة الصديق في خدمة صديقه، سواء كانت مصالح مادية قائمة على أسباب العيش الكريم أو مصالح معنوية قائمة على تغذية مشاعر الرضا و البهجة و تعزيز الثقة بالنفس. إذا فهمنا جيدا هذه الحقيقة لن نطلب من الطرف الآخر في أية علاقة كانت أن يكون مثاليا بدون أخطاء كأنه برنامج ألي يسير على حسب رغبتنا، لأن لذة العيش في التعامل الإنساني، اللوم و التسامح ، الابتعاد لبعض الوقت ثم الاقتراب بشوق، الغضب و طلب العفو.
إنني لا أحب وضع التصنيفات و تسطير القوانين لأن عالم إنساني يقوم على أساس الشعور ولا وجود لبشر كامل، و أنا في هذا المجال تحديدا لا أشجع على طلب النصح و الجري خلف الصفحات التي تدعي نشر وعي العلاقات لأنها متاهة لا مخرج منها إلا بالعودة لتحكيم المصلحة الذاتية ومشاعر الرضا في النفس.
لويزة موهوب