عندما يحالفك الحظ وتزور بلدان الناس، ستلاحظ مدى اهتمامهم بالموروث المادي وغيره، وستفاجأ بأحاديثهم الممتعة عن المتاحف والآثار والشعوب التي مرّت من هناك قبل سنين أو قبل قرون.
هؤلاء بشر لهم ما يتكئون عليه لتبرير وجودهم والدفاع عن كيانهم وتحصين هويتهم وتاريخهم، وعندها ستكتشف كم نحن بعيدون عن أنفسنا. لا شيء يشدنا إلى بعضنا سوى العاطفة الآنية العابرة للقارات.
السعيد بوطاجين
هذه العاطفة قابلة للتلوّث، للتصدع، للانحراف، للتآكل الكلّي لأنّها وليدة انفعالات لا تستند إلى دعائم تقوّيها، بعيدا عن الرّقص والهتافات والشعارات والخطب الفارغة، تلك التي لا تختلف عن قرع الطبول أو الكتابة على الرّمل في يوم عاصف. وما أكثر هذه الكتابات التي تسم حاضرنا، وما أشدّ فراغنا وفقرنا إلى معرفة ذاكرة المكان والأشياء.
في كلّ بلدان المعمورة هناك عناية بالآثار والمتاحف، بهذه العلامات غير اللغوية التي قد تكون أقوى وأنفع ممّا هو لغوي عابر.هناك في الحياة ما هو أجمل من كلامنا، وعلينا أن نقتنع بهذه الحقيقة لمعرفة ذواتنا، لمعرفة من نحن حتى نتجاوز أمارات صنعت تاريخنا، مهما كانت طبيعة هذا التاريخ المركّب، بسلبياته وإيجابياته.
من المؤسف حقّا أن نغرس في كلّ بقعة وفي كل زاوية من زوايا أرضنا خرائب ومحلات للأكل السريع، للأكل الخفيف والثقيل والمتوسط والنحيل والمستطيل والدائري والمسيل للدموع والضحك والقرف والاشمئزاز، ولا نفكر في تمتين ثقافتنا لنعرف من نحن في هذه الأرض، وما معنى المكان الذي نتحرك فيه. لأن المكان أحداث قبل أن يكون مجرّد أشكال ميّتة.
الثقافة عندنا هي سندويش بالبطاطس والبيض والهريسة، ليس إلاّ. أو أنّها الثقافة المهيمنة حاليا، حتى لا نقلل من جهد هذا أو نظلم هذا، أو الذين يعملون سرّا وجهرا.
يمكنك أن تجد في مدننا ما شئت من أنواع السندويش، وبأسماء مختلفة تؤثث قاموسنا اليومي المتخصص في تركيم المصطلحات المعوية باحترافية كبيرة لا ينافسنا فيها أحد أو نصف أحد. ولهذا نتباهى أمام الآخرين ونتطاول عليهم.
وأمّا ذاكرتنا الخاوية فلا شيء يؤثثها لتفادي السقوط في اللحظات المأساوية التي تعتري مشاعرنا. كان يكفي لمقابلة في كرة القدم وما تبعها من حماقات لنبحث عن متكأ، لنعرف من هو المعز لدين الله الفاطمي، دون أن نجد أثرا له. هذه عيّنة تمثيلية دالة على الصحو الظرفي للذاكرة التي لا تشتغل إلاّ في المناسبات.
من المفترض، من الناحية العملية، التفكير جديا، وفي إطار استراتيجي واضح الأهداف، العمل بشكل مستمر على تحصين موروثنا، ومن ثمّ تحصين البلد، بالحفاظ على هذه العلامات التي لاشيء يضاهيها، رغم قيمة الشطائر والطبل والمزمار والرّقص والقرارات واللّجان والبطاطس.
من المهم معرفة المكان الذي تواجد فيه المقراني وابن باديس والعربي بن مهيدي وعلي لابوانت، ومن المهمّ معرفة المكان الذي أقام فيه حسين داي، ومن المهم أيضا أن نعرف مقهى الديك المقدام بشارع ديدوش مراد، لأن له علاقة بتاريخنا، لأنه نحن. للمكان هوية كذلك.
لقد مرّ من هنا المفكّر كارل ماركس وأقام بفندق في شارع بلوزداد، ونزل الكاتب الفرنسي جي دو موبسان بالاميرالية حيث كتب نصه الشهير الذي أهاننا فيه. وتجوّل أحمد شوقي في ساحة الشهداء، وجلس تشي غيفارا في مقهى بساحة موريس أودان، وكتب أندري جيد قسما من كتابه قوت الأرض في بسكرة حيث الفندق الذي أقام فيه هناك في وسط عاصمة الزيبان.
وفي شارع عميروش، قبالة الميناء، جلس ألبير كامو وفكّر وكتب روائعه الأدبية، وفي بلكور، بمحاذاة المكتبة الوطنية، هناك مغارة سرفانتيس. وفي برج بوعريريج، ليس بعيدا عن المنصورة، آثار البيت الذي ولد فيه عبد الحميد بن هدوقة. ولا شيء يدل على ذلك.
وفي مدينة عنابة، ظلال القديس أغسطين الذي نقل إلى إيطاليا ليدفن من جديد في كنيسة بمدينة بافيا. من حقنا أن نعرف أشياء عن حياة شهدائنا وأبطالنا ومفكّرينا وأعلامنا: سيف الأمير مثلا، مسكن ابن خلدون ببجاية، مدرسة هواري بومدين بقالمة، دوار كاتب ياسين، المكان الذي كتب فيه مولود معمري أو محمد ديب، الجهة التي قتل فيها الأديب مولود فرعون، أين كانت حادثة المروحة، أين استشهد عميروش؟
آلاف المعالم تنمحي تدريجيا هنا وهناك، آثار منهوبة أو مهملة. لقد أبصرت ناسا يشيّدون بيوتهم بتحف رومانية، وبها يصنعون كراسيهم وموائدهم ودورات المياه. تلك هي ثقافتنا، ولا داعي للمزايدة.
ستشعر وأنت تتجوّل في مدن الدنيا أن هناك اهتماما استثنائيا بما نعتبره نحن مجرّد سفاسف لا شأن لها، وستكتشف أن للمكان ذاكرة تمنحه قيمة معرفية خاصة، أي مضمونا وإحالة على قيّم شتّى، لأن المكان علامات دالة لها مرجعيات وشخصية، أمّا إن لم يكن كذلك فهو مجرّد حجارة على حجارة على حديد على قصدير على خواء. الآثار والمتاحف والعمران والأطراس كتابة أيضا.
لن تجد في هذا البلد الجميل كراسات أو أوراقا أو بطاقات أو خرائط تدلك على الآثار والمعالم. هل تعرفون لماذا؟ لأن الأوراق كلّها خصصت للفّ شطائر البطاطس في محلاّت الأكل السريع والأكل البطيء والأكل الخفيف والأكل الثقيل والأكل المسيل للدموع. على أي شيء نتكىء اليوم وغدا؟ وبأية أنظمة من العلامات الدالة نتباهى ونواجه الآخرين عند الضرورة؟
استـر يا ربّ.