فيصل شريف
الأزمة بين الجزائر وفرنسا تحيلنا إلى ظاهرة كانت قد تعدّت حدود المعقول وتحوّل فيها المعقول إلى لا منطق، وصار اللاّ منطق مجالا للموت في عرض البحر في رحلة البحث عن عيشة أخرى، بعد أن افتُقد الوطن في ضوء معطيات سياسية، اقتصادية واجتماعية ظرفية. شباب في عمر الفتوة والقوّة واللامبالاة يشدّ الرّحال إلى ما وراء البحر لأنّه فقد الثّقة في كلّ شيء. سؤال كبير كان يجب أن يطرح.. لماذا كان الشاب الجزائري يهرول في عرض البحر إلى فرنسا (تحديدا) ودول غربية أخرى؟ سؤال كان يجب أن يطرح بصدق بعيدا عن الديماغوجية، وبموضوعية بعيدا عن لغة الخشب، وبشجاعة بعيدا عن التهريج.
لا يفهم الكثير من الجزائريين كيف يعتقد هؤلاء الشباب أنّ فرنسا (تحديدا)، إيطاليا، إسبانيا أو إنجلترا هي أولدورادو أحلامهم في أوقات وأزمنة جديدة تؤكّد أنّ الأمر أصبح سرابا في سراب. لم يكن هنالك حديث قبل بداية الحراك الشعبي في 2019 بين الجزائريين في الجزائر أو في فرنسا بين المغتربين إلاّ عن ظاهرة الحرّاقة. الظاهرة الاجتماعية التي هزّت المجتمع الجزائري برمّته، وهزّت مشاعر المهاجرين الجزائريين وهم ينظرون منهزمين إلى ما يحدث لشباب الجزائر الهارب من الواقع إلى السّراب. واقع الجزائر الصعب في مناحي عديدة، وسراب فرنسا ودول أوروبا بحقائقه اليومية.
الحرّاقة هي محاولة الهرب من وطن والولوج في عالم كلّه أحلام. الحرّاقة مصطلح جزائري قديم قدم الهجرة الجزائرية إلى فرنسا ودول أوروبية أخرى. في البدء كان المصطلح مرتبط بالنجاح حتى وإن كان ذلك نسبيا، أمّا اليوم فهو على علاقة بالموت وبفقدان الحياة وسط أمواج البحر العاتية.
الحرّاقة الجزائرية مصطلح تطوّر بتطوّر المجتمع الجزائري. ففي زمن ليس بالبعيد كان الحرّاق هو ذلك الشخص المقيم بفرنسا أو غيرها بطريقة غير شرعية. وقد كان دخوله الأراضي الأوروبية بصفة قانونية أو غير قانونية، لكنّ الغاية كانت دوما البقاء في أحضان أوروبا مهما كلّف الأمر. وقد كان لا يكلّفه الأمر إن هو ضُبط سوى بعض الأيّام في مراكز الحجز ثمّ إن فقد “معركته” مع القانون يعود من حيث أتى، إلى بلده الأصلي. الجزائر.
تطوّر الأمر كثيرا بخصوص هذه الظاهرة وذلك بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية، وبفعل تغافل وقصور وتقاعس فكري رهيب. وتحوّل الأمر إلى انتحار جماعي يومي يصنعه جزائريون شباب من كلّ مناطق الجزائر. تطوّر الأمر إلى حدّ أصبحت فيه الظاهرة تهدّد كيان المجتمع.
تابع الكثير من المهاجرين الجزائريين أحداث ووقائع ومآسي الحرّاقة بحسرة وألم، واستخلصوا أنّ وضع الشباب الجزائري لم يكن جميلا في بلد كان له أن يكون جميلا، في بلد لم يُفهم كيف تسيّر خيراته وكيف توزّع، في بلد كان من الواجب أن يكون فيه الشباب رائدا ومسيّرا لبلاده. بعد انتفاضة الشعب في 22 فيفري 2019 توقّف الزحف كمعجزة من الحراك لعدّة شهور، وانضم الشباب اليائس للانتفاضة بكلّ معاناته ومطالبه، ورأى في هذا الحراك أملا كبيرا.. غير أنّ الظاهرة للأسف عادت تدريجيا لتقضّ مضاجع العائلات الجزائرية من جديد.