فيصل شريف
عمّي أعمر.. صورتك لا تزال حيّة فينا ومعنا، تجوب عقولنا وأذهاننا، تثير تفكيرنا ومخيلاتنا، تنادينا، تناجينا، تسائلنا وتعيدنا إلى أوقات أخرى وأزمنة أخرى. نحن أبناء هذا الحيّ العتيق، أطفال تلك المساحة الشعبية في أعالي العاصمة، تلك الحومة النائمة في أحضان الأبيار.. السكالا. هذا الحيّ الذي ارتبط كحبل الوريد بالمسجد، أيَّام كان للمسجد حرمته، وأيّام كان الدين غير الدين الذي نحن عليه اليوم. الحيّ والمسجد ارتبطا أيضا بك، كيف لا وأنت الذي كنت رمزا ومرجعية، كيف لا وأنت الذي كنت وراء بناء جامع السكالا، وواحدا من الذين وضعوا الحجر فوق الآخر من الأساس إلى الصومعة. ذاكرتك ما تزال حيّة يقظة ومستيقظة. روحك النقية بيننا لدرجة أننا نشعر بها معنا في كلّ لحظة.
عمّي أعمر.. أتذكَّرك دوما، أتذكَّرك كأب، كحامي الحمى والدّيار وكبركة لناس السكالا. ما استطعت أبدا أن أنسى لحيتك البيضاء الجميلة، وابتسامتك الملائكية. لم أنس الهدوء الذي كنت عليه، وهل لي أن أنسى حكمتك، وقارك وعلمك… وطريقة قراءتك للقرآن بتلك اللكنة القبائلية التي كانت تضفي سحرا على قراءتك، تراتيلك وترانيمك. أذكُرك بـ”العباية”، بـ”البرنوس” أو بـ”القشابية” التي كنت تلبسها تبعا للمواسم والمناسبات بفخر واعتزاز الجزائري، إيحاءات منك بأهمية وضرورة الحفاظ على التقاليد والأعراف والتراث.
أتذكَّر عندما كنتَ تجمع الأطفال من حولك لتعليمهم القرآن. لم يكن في يدك عصا ولكن كنت تنهال علينا دوما بابتسامة كبيرة على شفتيك تغمر الجميع ونحن نترقّبها لنرى عبرها بياض أسنانك. أتذكر كيف كان الناس كلّ يوم يندفعون، ولا يتدافعون، إليك وحولك بعد كل صلاة مغرب ليرسموا دائرة كبيرة في المسجد على مقربة من المحراب لقراءة حزب أو حزبين من القرآن الكريم. هذه الصورة عالقة بذهني بصفة عجيبة.
أتذكَّر كل شيء، كل التفاصيل، أدقّ التفاصيل، وحتى تفاصيل التفاصيل، أتذكَّر هيئتك البدنية الرهيفة وانحناء ظهرك شيئا ما، أتذكَّر مشيتك المتثاقلة ونظراتك الثاقبة التي تصاحبها دوما وحتما ابتسامة مزلزلة تفرض الاحترام والإعجاب. تلك هي الصورة التي كانت دوما ماثلة فينا وما زالت إلى اليوم حيّة فينا. صورة الجدّ الأبدي… أتذكَّر أسلوبك في الحديث والتبادل، طريقتك الفريدة في الردّ على الأسئلة حتى المحرجة منها. أتّذكّر تحاياك، نبرات صوتك ببحّته الخصوصية. أتذكَّر لطافتك، تسامحك، انفتاحك وعلمك الذي توزّعه بسخاء نادر. أتذكَّر كيف كنت تثير الاحترام من خلال مظهرك وكيف كنت تفرض الإنصات من خلال كلامك.
أتذكَّر الأوقات النادرة التي كنت تغضب فيها، ودائماً لأجل تصويب تعنّت أو تصحيح جهل وهراء بعض من الناس التي كانت تعتقد أنّها تملك الحقيقة، كلّ الحقيقة وحتى الحقيقة المطلقة. أتذكَّر غضبتك الكبرى عندما تنحّت مجموعة من الشباب في جانب من المسجد وانتظرت حتّى أنهيت صلاة الجماعة وبعدها همّوا بالصلاة بمفردهم في جماعة بإمام مرتجل. كان ذلك بدايات الاحتقان والفتن. لقد رفضوك كإمام، ولكن لم يكن ذلك هو سبب غضبتك، بل كان السبب أنّهم فرقوا الصفوف وفكر الجماعة. ومع ذلك، انتظرتهم حتى أنهوا صلاتهم، ثمّ واجهتهم بصرامة وقلت لهم أنّك لن تقبل هذا مرّة أخرى، وقلت، أنّه إن لم يرقكم الحال فاذهبوا للصلاة في مكان آخر يوافق أفكاركم الهدّامة. لم تجاريهم، ولم تكن لخزعبلاتهم أن تثيرك. أذكر أنك كنت غاضبًا جدًا لدرجة أنك تلفّظت بكلمات رادعة صوبهم بالفرنسية، اللغة الفرنسية التي كنت تجيدها بامتياز.
أتذكَّر أيضا تلك المجموعة الصغيرة من المراهقين الذين جاءوا ليسألوك في حياء وكثير احترام، إذا كان حراما لبس الشورتات القصيرة للعب كرة القدم. حتى يومنا هذا، إجابتك ما زال صداها في داخلي. قلت لهم: “وهل تلعبون كرة القدم بشكل جيد أم لا؟” لم تقل أكثر. وفهم الشباب المراهق مقصدك والذين كنت تقصدهم.
عمّي أعمر.. عشت الوقت الجميل لمسجد السكالا، وكنت لسنوات الإمام والأب والرجل الذي تصل به الحكمة إلينا. كان ذلك زمن الثمانينيات الجميل، ولكن، في وقت لاحق، تغيرت الأمور إلى السوء، إلى الأسوأ. وبقيتَ تواجه الهبل والخبل كعادتك وبطريقتك، ولكن الجهل وعدم الاحترام الذي طالك، وكذا تقدّمك في السنّ كان له أثره عليك. منذ ذلك الحين، رأيناك تمرّ مثل الظل، ولكن دائما بابتسامتك الأسطورية، بلحيتك البيضاء وملابسك التي تساير المواسم. وفي يوم ما، من سنة ما ومن زمن ما.. رحلت إلى الأبد، ولكن حيث أين أنت، ما زلت تحرس حيّ السكالا وعينك على جامعه.
أتذكَّر أنّ يوم جنازتك حضر أولاد السكالا والأبيار ومن أحياء شتى ليودّعوك… ولكن لم يأت أولئك الذين كانوا سببا في غضباتك.