بقلم: د. جمال بلعربي
أقل ما يمكن أن يقال عن تصريحات الرئيس تبون، في حديثه الأخير إلى جريدة “لوبينيون” الفرنسية، إنها تعيد خلط الأوراق بكثير من الحزم، من أجل إعادة توزيعها على مرأى من الجميع، وإتاحة فرصة جديدة حقيقية لمن لديه مشاريع سياسية للتفاعل الإيجابي مع الأحداث والشروع في إعداد أرضية صلبة لبناء مستقبل مختلف لمنطقة المتوسط برمتها. فبعد أن حشر الرئيس ماكرون نفسه في زاوية يسيطر عليها اليمين المتطرف، وبعد أن أوصله ذلك إلى نقطة اللارجوع في استعداء الجبهة الشعبية الجديدة، المرجح الأقوى لكفة المتطرفين، يبدو أنه فقد جميع أوراقه واستنفد جميع فرص المناورة، ولم يبق له سوى أن يكابر. وهنا جاءت حركة الرئيس تبون لتتيح له فرصة أخيرة للخروج من المأزق، ولكن من المحتمل ألا يغتنمها، على الأقل لأنه لم يعد سيد أمره، فتكون الجزائر قد أدت ما عليها في المعادلة الثنائية الجزائرية الفرنسية والتي تحتاج فيها فرنسا، في كثير من الأحيان، إلى مساعدة جزائرية لكي تتجاوز عقدها الموروثة عن المعالجة المتواضعة جدا لامتحان سنة 62.
يعمل اليمين المتطرف في فرنسا – بكل ما يحمله من ميراث الانحرافات الإيديولوجية العائدة إلى زمن النازية – منذ الخمسينات من القرن الماضي على تسميم السياسات الفرنسية وتشويهها بميوله العنصرية الاستعمارية، حيث يسمح الناطقون باسمه لأنفسهم ولأتباعهم بتكريس خطاب الكراهية على مرأى من الجهات القضائية، ويحرضون الشارع على اجترار هذا الخطاب، بل يتخذون منه أداة تحشيد خلال الحملات الانتخابية لربح بعض الأصوات الإضافية الحاقدة. إنها قناعات تشكلت نتيجة القراءة الخاطئة لمجريات حرب الجزائر، ولم يعد أصحابها قادرين على تجاوز أنفسهم ولا التحرر من ماضيهم الشقي، لذلك يجدون أنفسهم دائما في الموقع الخطأ من التاريخ، ويضطرون إلى البحث في قمامة السياسة عن مشاعر وعبارات، وعن ألاعيب، لا تصلح للاستعمال إلا عندما تتأزم الأوضاع، بل هم يتعمدون الدفع بالمواقف إلى الاحتدام كي يجدوا شيئا من الهامش للمناورة.
لقد اتضح أن التشنج الذي يتكرر بين الفينة والأخرى بين البلدين، مرده إلى تأثير اليمين المتطرف، وهو ناتج عن السياسات التي تحمل بصمات هذا التيار. وكأن صاحب حديث “لوبينيون” يطلب من الطبقة السياسية الفرنسية – وخاصة المؤسسات المخولة – أن تتحمل مسئوليتها تجاه هذا التيار المارق عن الضوابط السياسية الديمقراطية. وهو بمثابة تنبيه إلى أن وقتا ثمينا قد ضاع من تاريخ الضفتين كان يمكن أن ينجز فيه الكثير لصالح الشعبين، ولم يبق منه الكثير لمن يريد أن يستدرك. وهو كذلك تنبيه صريح إلى أن الاتفاقيات بين الدول ليست مشاريع خيرية، ولا مجرد نزوات تتلاعب بها الأحزاب الخاسرة، بل هي اتفاقيات تضمن مصالح الطرفين، والطرفان هنا تمثلهما ملايين من المواطنين من الضفتين تتحمل فرنسا وحدها المسئولية الكاملة عن مسارات حياتهم، ولا يحق لها أن تنظر إليهم على أنهم من فئة بشرية دونية كما يفعل اليمين المتطرف. وعليها أن تتحمل مسئولية أي ارتجال في معالجة ملفاتهم.
كما وجّه صاحب الحديث رسالة واضحة ومباشرة، إلى من يراهن على التمعش من احتمال الانسداد التام في العلاقات بين البلدين، بأن الطبقة السياسية الفرنسية لها وجه آخر مشرف، ومشرف جدا، كما تشهد على ذلك الحقائق التاريخية، والتصريحات والمواقف الراهنة. وهو الوجه الذي يجب أن يراهن عليه من يرغب في بناء مستقبل مختلف في وضع جيوسياسي متوتر وجاهز للانقلاب على نفسه، وعلى الجميع، في أية لحظة.
لم يفوت الفرصة للتأكيد على الدور الحاسم الذي يلعبه أبناء المهاجرين، وعلى رأسهم الذين من أصول جزائرية، ومن يتماهى معهم من المغاربيين والأفارقة وغيرهم، في المحافظة على التوازنات السياسية الفرنسية، والإقليمية، وهي رسالة أخرى لهذه الكتلة القوية من الكيان السياسي الفرنسي لتعي أهميتها أكثر وتعمل على تقوية أدوات تأثيرها في بلورة السياسات الوطنية والإقليمية. فهناك في فرنسا، على المستوى الإداري كما في الطبقة السياسية، من يعمل على تقديم الجاليات المهاجرة في صورة تقلل من قيمتها وتحملها فشل السياسات المرتجلة، بينما تقتضي مصلحة فرنسا، ثم مصلحة هذه الجاليات، أن تتطور المنظومة القانونية، والمنظومة الاجتماعية، بالصورة تصبح معها أداة إدماج لجميع المكونات الديمغرافية للمجتمع الفرنسي وليس أداة تمييز وإقصاء.
أما الملفات الهامشية التي حاول الإعلام، المروج للخطاب اليميني المتطرف، أن يجعل منها مدخلا ضيقا لتعكير الأجواء، ويبدو أن ماكرون، للمرة نون، يقع في فخها، ويتحول من صاحب قرار سياسي إلى صانع محتوى بسيط جدا، فالإشارة واضحة وصريحة أيضا إلا أن معالجتها يجب ألا تخرج عن نطاقها الموضوعي، دون أي تلميح إلى إمكانية التراجع عن الخطوات المتخذة من طرف المصالح الجزائرية المخولة، بعيدا عن تأثر التصريحات، من هنا وهناك، بجميع أنواعها. وهذا على كل حال أسلوب سياسي جزائري خالص لم نكن نتوقع أقلّ منه؛ الشيء الذي يفرض على الطرف الفرنسي أن يعود إلى استعمال القنوات التقليدية للتواصل بدلا من منصات صناعة المحتوى، والمزايدات التي يتغذى عليها إعلام اليمين المتطرف.
في الكفة المقابلة يمكن أن نستنتج من هذا الحديث استعمال الورقة الرابحة بلغة العصر، وذلك بلفت الانتباه إلى أن الجزائر شريك اقتصادي قوي وفاعل ومؤثر في اقتصاديات المنطقة وهو فرصة ثمينة لأي طرف يتعامل بقاعدة رابح رابح، ويريد أن يتفاعل إيجابيا مع التحولات العالمية والإقليمية الجذرية التي تجري في هذه المرحلة من التاريخ، ويشارك في تحديد ملامح المستقبل، لأن أساليب النظام الاقتصادي العالمي منتهي الصلاحية لم تعد ممكنة الآن، بل يجب ابتكار أساليب جديدة تكون مشبعة بقيم العصر وقادرة على العمل بتقنياته ووفقا لمعطياته، وخاصة منها تلك التي تغيرت تماما خلال الستين سنة الماضية. وهذا ما لا يستطيعه اليمين العنصري المصر على احتقار أبناء المهاجرين وتذكيرهم دائما بالماضي الاستعماري وقيمه المتخلفة. وهو ما يدل مرة أخرى على أن المشكلة الحقيقية بين فرنسا والمجال الطبيعي الذي يفترض أن يكون مجالها الحيوي بامتياز هي مشكلة عقيدة سياسية رجعية يغذيها اليمين المتطرف ويتغذى منها. يجب على الدولة الفرنسية أن تحسم أمرها مع مواطنيها المتمردين على قوانينها، فالممارسات العنصرية ليست وجهة نظر وليست حرية رأي ولا موقف سياسي.
على المستوى الإقليمي قام الرئيس تبون، بشكل لم يكن متوقعا، على الأقل في الوقت الراهن، بهذه الصراحة، بإعادة البوصلة إلى وجهتها الصحيحة، مستعملا ورقة الآس، الحاسمة، وموضحا بأن المواقف السياسية للدول لا تقوم على أية كراهية مبدئية، لا دينية ولا عرقية ذات أصل عنصري منحط، بل تقوم على الأخلاق السياسية والقيم الإنسانية أولا ثم على المصالح. وأن الجزائر لا تهتم بتغذية أي عداء مجاني تجاه أية مجموعة بشرية أو أي كيان سياسي، لكنها لا تتاجر بالقضايا العادلة، ولا تتلاعب بمواقفها بأية روح زبائنية فجة. وأكد، من موقع القوة التي تدعمها التقارير الأممية والقرارات القانونية الدولية، أن الجزائر مستعدة لرفع تحفظاتها على الكيان المحتل عندما يقرر هذا الكيان أن يخضع للشرعية الدولية والقرارات الأممية. وهي ورقة أخرى يسقطها من يد الخصوم المتحاملين الذين يغذون التطرف اليميني في فرنسا وفي الإقليم بصفة عامة، في إشارة واضحة إلى أن العلاقات الطبيعية يجب أن تكون طبيعية في جميع الاتجاهات، وأولها في اتجاه الشعب الفلسطيني، ومن طرف المجموعة الدولية بأكملها، وعلى رأسها مجلس الأمن.
إنه حديث بأسلوب مختلف تماما عما يمكن أن يتوقعه الكيدورسي في طبعته الحالية. بدون خطاب في الفلسفة السياسية، وبدون استفزازات، وعلى وجه الخصوص، بدون أي تأثر بالتصريحات الفرنسية الأخيرة، يعبر بلغة الجمع والبناء والتغيير الجذري المتطلع إلى المستقبل. فهل ستصل الرسالة إلى هدفها؟