في ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، استلم الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، الحكم في انتخابات مطعون في شرعيتها بعد انسحاب منافسيه، كانت آنذاك الجزائر خارجة للتو من محنتها التي كبدتها تكلفة سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية ونفسية باهضة، فعلى الصعيد الاجتماعي، دمار العنف المسلح يحصي ما يقارب 200 ألف قتيل وأزيد من 18 ألف مفقود حسب أرقام منظمات حقوقية، ولم تكن هذه الحصيلة مجرد أرقام، بل كانت مصحوبة بآثار نفسية مدمرة على المستوى الشخصي للأفراد أو على المستوى الجمعي.
اقتصاديا اعترفت الحكومات السابقة أن الأزمة السياسو _ أمنية خلفت مالا يقل عن 25 مليار دولار خسائر اقتصادية، سواء ما تعلق بانهيار وتدمير المنشات من جسور وطرقات ومباني ووو.. أو الحرق والتخريب الذي طال المؤسسات العمومية والخاصة ووسائل النقل ووو الخ. خلال هذه الفترة التي فرضت نفسها على التفكير الجماعي للجزائريين، كان حبل المديونية الخارجية ملفوف على عنق الجزائر بأزيد من 35 مليار دولار.
حينها كان الرئيس المخلوع وهو ينتشي ” لحظة الانتصار”، زاهيا بالانتقام من الزمن ومن الرجال، يطلق وعوده إلى عنان السماء، العزة والكرامة للجزائريين، وتحسين صورة الجزائر في الخارج، ولأن مداخيل البلد كلها من النفط، واقتصاد الجزائر مربوط ببرميل نفط، ورفاهية المواطن مربوطة بتقلبات أسعار النفط في السوق الدولية، فقد أدت الطفرة التي سجلتها أسعار النفط والتي فاقت لأول مرة 150 دولار للبرميل، إلى بروز مؤشرات عن تحسن الاقتصاد الوطني، فازدادت النفقات، وتحركت مداخيل الفرض، وبدأت الخزينة العمومية تلقي بالأموال يمينا وشمالا تجسيدا لسياسات شعبوية، مثلما هو الحال في قروض اونساج وكناك وغيرها من الصيغ التي انبتت التقارير فيما بعد أنها موجهة لاستنزاف الأموال أكثر مما هي موجهة لخلق فرص التشغيل، وفتح باب الاستيراد على مصراعيه وهو الباب الذي أدى إلى فتح المجال واسعا امام تهريب العملة الصعبة. ليبقى القرار الصائب الوحيد حسب الكثيرين هو قيادم بوتفليقة بتسديد المديونية الخارجية للجزائر.
ورغم تحذيرات الخبراء المستقلين، من مخاطر السياسات الشعبوية والتسيير البيروقراطي للاقتصاد الريعي، من خلال الاعتماد على أسعار النفط المتقلبة، إلا أن الرئيس المخلوع واصل في توزيع الأموال بطريقة عشوائية وفي مشاريع لم تدرس أحيانا لا من حيث الجدوى، ولا الفعالية ولا من حيث الجودة مقارنة بالأموال التي خصصت لها، رغم الدعاية الإعلامية التي كان يعتمد عليها نظام بوتفليقة وحكومته.
ولان مشاريع الرئيس المخلوع بوتفليقة، لم تكن إلا مشاريع سياسوية بحسابات البقاء في الحكم، فسريعا، ما ظهرت أثارها المدمرة مع تراجع أسعار النفط، عام 2014، حيث أمر حكومته بالذهاب إلى طبع الأموال خارج التغطية، كنوع من القروض الداخلية بين البنك المركزي والحكومة، وهو محذر منه المختصتون بسبب أثاره الوخيمة على الاقتصاد الوطني، وهو ما جعل الحكومة الخالية تقرر توقيف طبع الأموال دون تغطية والذهاب نحو الاستدانة الخارجية من خلال المؤسسات الاقتصادية الكبرى كسونلغاز وسوناطراك…الخ.
اجتماعيا: بدأت تظهر للعيان الآثار السلبية لسياسات المخلوع على المجتمع، فقد أدى قانون الأسرة الذي اعتمده عام 2015 إلى ازدياد حالات الطلاق وارتفاع منسوبها إلى مستويات قياسية، ارتفاع نسبة البطالة، وتنامي ظاهرة الحرقة، فضلا عن تناول المخدرات بكل أنواعها والمتاجرة فيها، بل عرفت البلاد أنواع أكثر خطورة كالهرويين والكوكايين، ولم تكن هذه الظواهر التي ميزت سياسات بوتفليقة دون ضريبة نفسية، إذ أصبح التوتر والقلق والخوف من المجهول سمة من سمات الجزائريين في مرحلة بوتفليقة وما بعدها، فانتشر النفاق والكذب والبهتان..الخ كل هذه ساهمت بشكل مباشر في ارتفاع حصيلة الجرائم في الأحياء الشعبية والمدن وانتقالها حتى إلى القرى التي كانت توصف بالآمنة.
سياسيا: أسس بوتفليقة لنظام الحكم الفردي الشمولي، القائم على حكم العائلة بدعم عائلات معروفة بارتباطاتها المالية، كما جعل من الزبائنية والولاء والجهوية، معايير للوصول إلى مناصب المسؤولية، فألغى المؤسسات وحل محلها حكم الفرد أو الشخص، كما احتكر الإعلام وجعل منه بوقا دعائيا لشخصه وسياسته، كسر الأحزاب وميع المجتمع المدني، وحارب الرموز، فادخل البلد في تصحر سياسي وجفاء إعلامي لم تعرفه الجزائر حتى في أوج الأزمة الأمنية.
اليوم، بعد عشرين سنة من حكم المخلوع، الجزائر تعود إلى أزمتها الاقتصادية، باستدانة خارجية تفتح الباب واسعا أمام الضغط على الجزائر من قبل الدول الكبرى، وتعود سياسيا إلى المربع الأول، وتعيش تهلهلا اجتماعيا في مشهد مماثل للمشهد الذي أعقب الأزمة السياسو_أمنية، فحق بذلك ما كان يشاع ان الرئيس المخلوع شعبيا، تعهد أن يعيد الجزائر إلى ما كانت عليه عام 1999 إذا ما طرد من الحكم.