الدكتور : مصطفى كيحل
ساد الانطباع قبل زمن الحداثة السياسية أن الذي يسيطر على روح الجماهير ليس التوق للحرية و إنما نشدان العبودية و الظمأ للطاعة ما يجعلها تخضع لمن ينصب عليها زعيما ، و يقدم نفسه قائدا أو محركا للجموع ، لأن الجماهير في أغلب الأحيان مثلها مثل القطيع الذي لا يستطيع أن يتحرك بدون قائد ، و لكن يحدث أن تخدع الجماهير في زعيمها و تصاب بخيبة كبيرة في قائدها بعد أن تكشف الوقائع عن حقيقته الزائفة و المصطنعة ، فهذا القائد أو الزعيم الذي استطاع أن يخدع الجميع ليس بمحاجاته العقلانية و قوة إقناعه المنطقية و إنما بقدرته الفائقة على الإثارة و التهييج و قوة التحريض و امتهانه للكذب ، فالزعماء في أغلب الأحيان ليسوا رجال فكر و إنما رجال ممارسة و قرار يعملون على سحر الجماهير و تحويلها إلى أداة طيعة تأتمر بأوامرهم و توجيهاتهم . و هذا ما يمكنهم من فرض سلطتهم الاستبدادية من خلال فرض طاعتهم على الجميع .
و الزعماء الذين يحملون هذه القوة المدعومة بهذه الهيبة السحرية قليلون في التاريخ مقارنة بالزعماء الذين يحملون الهيبة الزائفة و المصطنعة ، و القوة المدعومة بالهيبة و الاحترام تنشأ في الغالب بسبب عاطفة الإعجاب و الخوف ، فهاتان العاطفتان تشكلان أساس هذه الهيبة أو الكاريزما و جوهرها ، و الكاريزما هي موهبة يتمتع بها بعض الأفراد تؤهلهم لتولي مناصب قيادية ، أو هي عبارة عن نوع من الجاذبية التي يمارسها فرد على روح الجماعة ، و هي الجاذبية التي تعطل قدراتنا النقدية و ملكاتنا الفلسفية و تملأ المتلقي بمشاعر الدهشة و التبجيل لشخصية و خطاب الزعيم .
و يعرف المشتغلون بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية و خاصة علماء الاجتماع السياسي أن عالم الاجتماع ” ماكس فيبر” هو من ميز بين ثلاثة أنواع من السلطة ، و هي السلطة التقليدية و السلطة الكاريزمية و السلطة العقلانية القانونية ، و هذا التمييز المقترح كان الغرض منه تفسير ظاهرة السلطة ، لأن كل التنظيمات الاجتماعية تستخدم السلطة و تمارس القوة ، لأن السلطة في جوهرها هي تلك النوع من القيادة التي تستهدف إيجاد طاعة أو ائتمار عند أشخاص آخرين ، ففي كل سلطة هناك طرف يعطي أوامر ستنفذ حتما ، و الطرف الذي ينفذ تلك الأوامر إنما يفعل ذلك لاعتقاده بمشروعية من تصدر عنه .
و بهدف تفسير مصدر السلطة و مدى مشروعيتها ، يحلل ماكس فيبر كل سلطة من السلطات الثلاث ، ففي السلطة التقليدية يكون مصدر الاحترام و التسليم بالشرعية هو الأعراف و الأنماط الثقافية الثابتة و الطويلة الأمد ، و الخضوع فيها يكون بسبب الوفاء الذي يكنه الناس للمكانة التقليدية للحكام المتوارثة جيلا بعد جيل ، بمعنى أخر الأفراد يخضعون للسلطة التقليدية لأنهم يقدسون و يطيعون التقاليد المتوارثة ، سواء كانت هذه السلطة متمثلة في العائلة الحاكمة أو في الأمير أو في رئيس القبيلة .
أما السلطة الكاريزمية ففيها يتمتع الحاكم بهيبة سحرية تجلب له كل معاني الاحترام و التقدير و التقديس ، كما هو الحال بالنسبة للأنبياء والقادة العسكريين الملهمين ، فالكاريزما مصطلح يوناني مشتق من كلمة نعمة أو الهبة الإلهية التي تجعل المرء مفضلا لجاذبيته ، فهي خاصية تجعل الفرد يتميز عن باقي الرجال العاديين ، و يعامل على أنه إنسان استثنائي أو رجل معجزة ، و استنادا إليها يعامل على أنه قائد يجب طاعة أوامره ، و يرى ماكس فيبر أن الكاريزما هي إحدى قوى التغيير الاجتماعي ، و تعطي لحاملها كل معاني القوة و القداسة حيث يستجيب الأتباع لكل قرارات القائد بسبب الحب الكبير الذي يكنونه له و الرهبة و الخوف الذي يتملكهم تجاهه ، و لذلك فإنهم يتقبلون كل ما يصدر عنه حتى و إن كان مساسا بالتقاليد و ما توارثوه عن أجدادهم ، لأنه شخص غير عادي .
و النوع الثالث من السلطة عند ماكس فيبر هو ” السلطة العقلانية القانونية ” و هي السلطة التي ارتبطت بظهور الرأسمالية ، و التي تستمد مشروعيتها من القوانين التي تعبر عن الإرادة الجماعية و المعبر عنها في جملة النصوص القانونية ، و ليس وفقا للتقاليد أو لرغبات الأفراد و العصبيات ، و لقد ربط ماكس فيبر العقلانية بتطور و صيرورة المجتمع الغربي ، و التنظيمات السياسية و الاجتماعية الغربية الحديثة ، و رأى أن البيروقراطية هي الشكل الأساسي للسلطة العقلانية القانونية التي يكون الخضوع فيها للقانون و لا طاعة فيها إلا للقواعد و القوانين المحددة ، و في نمط السلطة العقلانية القانونية تمكن العالم الغربي من تجريد السلطة من طابعها الشخصي الذي كان سائدا في السلطة التقليدية و السلطة الكاريزمية ، و المرور إلى مرحلة العقلانية السياسية من خلال نموذج الدولة الأمة .
أما بالنسبة للعالم العربي الإسلامي فلا زال نموذج السلطة التقليدية و نموذج السلطة الكاريزمية هو المهيمن ، و أن عملية التحول نحو العقلانية السياسية مازال بعيد المنال ، و ما يلاحظ في أغلب التجارب العربية هو طغيان نموذج السلطة الكاريزمية ، و لكن الكاريزما الزائفة و المصطنعة و ليس الكاريزما الذاتية الحقيقية و الطبيعية ، ففي الكثير من التجارب السياسية الفاشلة تعمل جماعات المصالح و المثقفون الإيديولوجيون و البروباغوندا الإعلامية على تسويق صورة لحاكم عربي تجتمع فيها خصائص الرجل المعجزة و الرجل الاستثنائي و المهدي المنتظر و المخلص و المجاهد الأعظم و الزعيم المفدى ، و لكن كل ذلك ليس حقيقيا ، فالكاريزما المصطنعة و الزائفة هي الأكثر انتشارا في ثقافتنا السياسية ، فيكفي أن يصل شخص ما للسلطة حتى تنطلق أجهزة الدعاية في إلصاق صفات الهيبة السحرية و التميز المنقطع النظير به ، و وصفه بما هو ليس أهلا له و الترويج لإنجازاته و رفض كل جهد نقدي حيادي لأفكاره و أدائه و تخوين كل من يعارض تلك الصورة أو يطعن في صحتها ، و تنتهي دينامية هذا التزييف الى فرض صور نمطية خاطئة من شأنها أن تزيف الوعي و تكرس الوهم ، و لكن بمجرد أن يفشل هذا الحاكم- البطل ، إلا و تظهر صورته الحقيقية ، و الجماهير التي صفقت له و رفعت من شأنه بسبب ذلك التزييف تنقلب إلى احتقاره و لعنه ، لأن المؤمنين يحطمون دائما بنوع من الهيجان تماثيل آلهتهم السابقة .
فالهيبة المصطنعة و الزائفة لا يتوقف ضررها عند القائد و إنما يتعداه إلى الشعب ، فالقائد الزائف يفوت على الشعب فرص الرشد و التنوير ، لأنه يحرص على أن تظل هذه الشعوب تعيش في أوهامها و حكاياتها الساذجة و تتعلق بوهم الرجل المخلص الذي سيسحبها نحو الخير و الرفاه و يضمن لها شروط الحياة الكريمة، و يحميها من عدوان الأغيار ، و لكن سرعان ما تظهر الحقائق العارية التي تكشف عن مفردات البؤس و الحرمان ،و تهافت أطروحات الوصاية الكاذبة .
و ذلك تماما ما عاشه الجزائريون مع الرئيس السابق ، و يكفي أن نذكر بتصريحات البعض لنعرف مدى حجم الجهد الذي بدل من أجل إلصاق الصور الكاريزمية الزائفة به ، لقد بدأت هذه التصريحات مع عمارة بن يونس الذي قال إن الجزائر تحتاج إلى عقل الرئيس و ليس إلى رجليه ، و صرح عمار غول قائلا: أنا مع الرئيس بوتفليقة حيا أو ميتا ، و نفس الأمر مع جمال ولد عباس الذي أعلن عن مساندته للعهدة الخامسة لبوتفليقة بل و إلى الأبد و علق عن زيارة المستشارة الألمانية “إنجيلا مركل” للجزائر و لقائها مع بوتفليقة قائلا : هل رأيتم كيف كانت” إنجيلا مركل” تهز رأسها و هي تستمع إلى الرئيس بوتفليقة ، الجميع ينصت له لدينا رئيس عملاق ، و هذا السيد حبيب حمراوي شوقي وصل به الأمر إلى القول : لو كانت لي دعوة مستجابة لدعوت الله أن أموت مع بوتفليقة ، و ليس بعيدا عن ذلك صرح رئيس المنظمة الوطنية للزوايا قائلا : أن التفكير في رئيس غير بوتفليقة للعهدة الخامسة كفر ، و هذا معاذ بوشارب يقول : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يصلح لها دينها ، و قد أرسل سنة 1999 بوتفليقة ليصلح أمر الجزائر و الجزائريين ، أما الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي فقد أعلن أن عقل الرئيس سليم مئة بالمئة لكنه لا يستطيع الكلام ، هذه التصريحات هي غيض من فيض حول قدرات الرئيس الخارقة و مؤهلاته الفائقة التي تمكنه من تسيير البلد و هو مقعد لا يسمع و لا يتكلم و لا يتحرك و لا يفكر ، و أن الجزائر ليس فيها من يستطيع أن يخلفه في القيادة و تسيير الشأن العام ، و لكن بعد 22 فيفري تأكد الجزائريون أن النظام الذي أسس له بوتفليقة هو نظام فاسد و أن الفساد الذي عرفته الجزائر في فترة حكمه لم تعرفه منذ حكم ماسينيسا .
إن الشعوب اليوم لم تعد تصدق تلك الروايات حول الشخصيات الكاريزمية ، و حول قدراتها السحرية و أفكارها الخارقة و انجازاتها العظيمة حتى لو كانت صحيحة ، أما إذا كانت تلك الشخصيات الكاريزمية مصطنعة و زائفة و خادعة ، فإن الشعوب لا تكتفي فقط بتكذيبها و إنما تسخر منها و تكفر بها و تلعنها و ترميها في مزبلة التاريخ . وعليه فان كل جهد يستهدف تكريس ثقافة الإيمان بالشخصية الكاريزمية هو جهد يريد أن يبقي الشعوب تحت نير ثقافة الوصاية و الأبوية ، و يرفض بلوغها ثقافة الرشد و العقلانية .