د/عزالدين معزة
يقول جهابذة المؤرخين من أمثال العلامة ابن خلدون، وأرنولد توينبي، وبول كينيدي، أن التاريخ يكمل دورته بعد أربعة أجيال “100سنة أو 120″ّ وهكذا دواليك، أي ينطلق ويحقق مشروعا ضخما ثم يتقهقر ويتراجع ويصبح ما حققه حلما، ثم ينهض من جديد وهكذا.
ويقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ” وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” آل عمران 140، يوم لكم ويوم عليكم، هكذا يسير التاريخ رغما عن الجميع.
لا نناقش القرآن الكريم فهو منزه عن الخطأ ..
نعود إلى اقوال المؤرخين، كل بداية لا بد وأن يعقبها نهاية، وكل نهاية يعقبها تكرار للبداية الأولى. ويرى هذا الاتجاه أيضاً أن التاريخ يسير في صيرورة وديمومة دائرية يخضع لها الإنسان والشعوب والحضارات. وهذا الإيقاع الدائري لا يخرج عن ثلاثة مراحل هي: البداية – النمو – النهاية أو الموت، ثم تعود البداية من جديد وهكذا دواليك .
ولاحظ ابن خلدون أن الدول تمر بعدة تطورات من ناحيتين هما: الأحوال العامة من السياسية والاقتصاد والعمران والأخلاق، والتطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوة والاتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير.
ويربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، “فالدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”، على حد تعبيره.
بحسب ابن خلدون فإن الجيل الأخير أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو الجيل/النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى “نخبة” تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون غيرها.
إن الثورة وانتصارها كما انتكاستها أو الانقلاب عليها من البديهيات والأساسيات في سنن المجتمعات والتاريخ، فالتـدافع بين هذيـن البعـدين لـن تجـد لـه تبـديلا وقاهرًا، فما من نظام مهما استبد يظل معرضا لدخول مرحلة الهرم والشيخوخة ويحين أوان سقوطه، وما من ميزان قوى إلا آيـل إلى الاختلال والتغـير العميـق، ففي لحظـة شيخوخـة النظـام واختلال ميزان القـوى داخلـه، يأتي الجيل الرابع، ليبدأ عصرا جديدا ..
لنعد الى وطننا، يقال إن النار تلد الرماد، كلنا نتفق لو أن الإرادة التي انطلق بها رجال أول نوفمبر استمرت بعد استرجاع السيادة الوطنية لكنا الآن ننافس اليابان وألمانيا في جميع المجالات فلنا كل الإمكانات البشرية والمادية والجيوستراتيجية التي تسمح لنا بذلك …
قال لي أستاذ جزائري كان يدرس مع العلامة محمد الغزالي رحمه الله في جامعة الأمير عبد القادر، أنه قال له: “أنني أكذب بأن هذا الشعب هو الذي قام بتلك الثورة المجيدة”. وقال جزائريون لو عاد الشهداء لحاربونا ..
احتاجت أمريكا الجنوبية لأكثر من قرن لكي تتخلص من الحكم العسكري وتبدأ في عملية دمقرطة المجتمع ….
انبهرنا بالاستقلال وذاك من حقنا أن نفرح بخروجنا من أسوأ استعمار استيطاني بربري مجرم، تلك الفرحة أنستنا واقعنا وما ينتظرنا من تحديات، فعملية البناء ودمقرطة المجتمع أصعب بكثير من كل الحركات الثورية المسلحة.
نسي الجيل الأول والثاني بعد الاستقلال الروح الثورية التي قادت الجزائر إلى استرجاع السيادة الوطنية، وعاش خاصة الحكام حلاوة العز والترف بما هم فيه من سلطة ونفوذ، وبلغ فيهم الترف غايته بما من النعيم وغضارة العيش، فصاروا عالة على الدولة، وفقدوا الروح الثورية ..
قد تستطيع أن تجعل من فلاح أمي واعٍ في فترة قصيرة جدا، أكبر بطل في معركة التحرير، لكنك لن تستطيع أن تجعل منه عالما إلا بعد سنوات طويلة من التعليم والتوجيه وصرف أموال كثيرة ..
وهنا نتساءل: لماذا عجزت السلطات الجزائرية في الماضي وراهنا في ابتكار وصفة، في صورة مشروع أو برنامج وطني متفق عليه بالإجماع النسبي على الأقل، كما فعلت جماعة 22، بموجبها يمكن العمل جماعيا من أجل تطوير المجتمع باعتباره مقدمة ضرورية وشرطا مركزيا لبناء دولة عصرية؟ في هذا الخصوص، يرى البعض من الخبراء المتخصصين في التاريخ السياسي الجزائري -ومن بينهم رجل الدولة والمفكر الجزائري مصطفى الأشرف- أن تأجيل هذه القضية أو رفض الخوض فيها من الأساس يمثل حجر عثرة يعقد مسار الانتقال من موروث الواقع الكولونيالي إلى واقع الاستقلال المختلف والمؤسس على الإجماع الوطني والسيادة الشعبية.
لا شك، أن هذه المسائل المطروحة ما تزال تؤرق النخب الوطنية المثقفة رغم أقليتها وتهميشها. ولكن نظام الحكم في الجزائر قد أغلق الباب حيث لم يسمح أبدا بتفعيل حوار متعدد الأصوات قصد إيجاد حلول دائمة وجدية للمشكلات والأزمات التي تتخبط فيها الجزائر وذلك على ضوء الطرح الواقعي للأسباب الحقيقية التي أدت وما تزال تؤدي إلى إخفاق السلطات الجزائرية في ممارسة العقلانية السياسية كنهج وكأسلوب بهدف تشييد بنيات تطور المجتمع العصري الذي تنهض عليه فيما بعد أركان الدولة الوطنية المتطورة.
ومن المؤسف حقا أنه كلما ظهر أفق واعد لإنجاز مثل هذا الحوار نجد من يفرض عراقيل تؤدي غالبا إلى إجهاضه مباشرة وهذا ما حصل، مثلا، أثناء وبعد النقاش شبه الوطني لتعديل الميثاق الوطني في سبعينيات القرن الماضي، وأثناء وبعد فتح قمقم الهوية الوطنية سواء في عهدي الرئيسين الشاذلي بن جديد واليامين زروال، أو خلال فترة ما سمي بماراثون المصالحة الوطنية في عهد الرئيس بوتفليقة حيث تعرضت كل هذه المحاولات إلى ضربات الانتقائية حينا والتوفيقية المراوغة حينا آخر وإلى الطعن من الخلف طورا آخر جراء الصراع العنيف على الحكم وهو أمر يتناقض تماما مع قول أحد المفكرين “ما يبدأ كفعل سياسي ينتهي بتجسيد نفسه في خاصية ثقافية”.
وبمعنى آخر، فإن أخطر سقطة لها ارتدادات عنيفة مستمرة في الجمهورية الجزائرية هي الوقوع في لعبة فرض مركزية حكم العسكر على العمق الشعبي الذي هو الفضاء الطبيعي لتشكيل روافع تطوير المجتمع الممهد لتطوير الدولة.
وفي الواقع، فإن هذا السلوك السلبي ليس ناتجا عن مرحلة الاستقلال الشكلي عن فرنسا فقط وإنما له جذور تقبع في شبكة البنيات الثقافية والاجتماعية الموروثة عبر التاريخ، وهكذا فإن مركزية الحكم، واستبعاد المجتمع في الأطراف من صياغته وتنفيذه ومراقبة نشاطاته في جزائر الاستقلال، مشتقة من عدة مرجعيات منها -على سبيل المثال- تأثير النظام الرأسمالي الاستعماري الفرنسي، ومركب النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعروف بهرمية الآغا وباشاغا والقيّاد وبنظام “الخماسة” الزراعي الذي بمقتضاه تم سحق المزارع والعامل تحت أقدام الإقطاعي أو صاحب رأس المال.
ولا شك، أن الأستاذة الجزائرية مغنية الأزرق، قد تمكنت من رصد تاريخ نشوء الطبقات في الجزائر، ومن الواضح أيضا أن هذا البنيان الاجتماعي غير المتكافئ له تأثير حاسم على إحلال مركزية السلطة والحكم في جزائر ما بعد الاستقلال بين أيدي شريحة أو فئة أو مجموعة ما في المجتمع الذي بقي إلى يومنا هذا فضاء للسلطات تمارس فيه مختلف أنماط تجارب الاحتواء والسيطرة والإقصاء.
جماعة الـ 22 الذين فجروا الثورة التحريرية تكونوا في مدارس حزب الشعب ومروا بتجارب صعبة صقلت وطنيتهم وفكرهم فصنعوا لنا المعجزات . والاستقلال لم يأت عبثا أو منة من فرنسا وهذا لا نقاش فيه ..
إن الثورة الجزائرية بكل تأكيد هي من فعل قوى شعبية كانت تصبو إلى تغييرات عميقة في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعها وتأكيداً جديداً لهويتها الثقافية. وبدون الإشارة صراحة إلى حتمية تاريخية ماركسية، فقد شاركت، مع ذلك، وجهة النظر في ترقية الجماهير الشعبية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. على الرغم من الالتزام الصادق للثوار الجزائريين بهذه الأهداف، لم تستطع الثورة الجزائرية بعد استرجاع سيادتها الوفاء بوعودها.
تلك الإرادة الفولاذية التي كانت لدى شهدائنا الأبرار ومجاهدينا الشرفاء وشعبنا البطل انكمشت بعد الاستقلال وكادت أن تغيب نهائيا وهذا واضح للجميع ولا يمكن تغطية الشمس بالغربال… شبابنا يموت في البحر هروبا من هذا الوطن الجميل “كانوا منذ عهد الاحتلال الروماني إلى آخر احتلال لنا يهربون من أوطانهم من الضفة الشمالية إلى الضفة الجنوبية أي إلى الجزائر وبعد الاستقلال حدث العكس، فوضى في التسيير.. شعارات فارغة.. فقر.. مستشفيات عاجزة.. تعليم يتقهقر.. نصوص قانونية معظمها بقيت حبرا على ورق… رغم ما قدمته الدولة للوطن من إنجازات لا ينكرها إلا جاحد ولكنها ليست كافية ولا تعبر عن تضحيات الشعب الجزائري التي قدمها لتحرير الجزائر ….
احترق الجيل الأول والثاني الذي ولد بعد الاستقلال ونوعا ما الجيل الثالث.
أما في رأيي المتواضع ووفقا لدورة التاريخ.. ستنطلق الجزائر مع الجيل الرابع بعد الاستقلال وسيظهر رجال في مستوى جماعة الـ 22 وستنطلق الجزائر إن شاء الله وسيتحقق حلم الشهداء.. وحلم الشعب …
فصبرا جميلا أيها الجيل الأول والثاني والثالث ما بعد الاستقلال …