الـحــلــقة الأولى:
مجموعة “لوس 12” أنقذهم بن بولعيد بعد أن جلبهم للأوراس في “الملاية ” القسنطينية.
- حوار: يروي ضابط جيش التحرير عن الولاية الأولى أوراس النمامشة الرائد محمد صغير هلايلي، في الجزء الأول من هذه الشهادة التاريخية الثرية، عن أصوله وهو سليل الهلاليين، الذين ساقتهم أقدار الفتوحات الإسلامية، كقبيلة عربية وجدت نفسها في “حجّر” منطقة الأوراس (شاوية) وكيف تحول مسقط رأسه قرية كيمل سرة السرة للثورة التحريرية التي فجرها القائد التاريخي الفذ مصطفى بن بولعيد، وكيف احتوت مقر قيادته التي ظلت عصيّة على الاستعمار من التفجير إلى النصر. يسرد فيها بوادر إرهاصات الثورة التحريرية، والعوامل الموضوعية والميدانية التي جعلت من الأوراس الحاضنة والرصاصة الأولى للثورة المظفرة،ثورة سيكشف عنها صاحب الشهادة أسرارا وأهوالا صادمة وصاعقة، تُعلنها “أخبار الوطن” لأول مرة، وبصفة حصرية.
ــــــــــــــــــــــ فـاروق مـعـزوزي ــــــــــــــــ
بن بولعيد منح أيت احمد بطاقة هويّة مزورة مكنته من الفرار والالتحاق بالوفد الخارجي.
مجموعة لوس 12 أنقذهم بن بولعيد بعد أن جلبهم للأوراس في “الملاية ” القسنطينية.
المقدسان في الأوراس “البندقية والمرأة” جعلاها بالضرورة مهدَ الثورة المسلحة.
الاغتصاب الممنهج لحرائر المجاهدين جعلهن يلتحقن بخط النار.
الجيش الفرنسي جعل من جسد والدي حقلَ تجارب للعمليات الجراحية حتى لفظ أنفاسه.
ــــــــــــــــــــــــ
سنخوض معكم شهادة طويلة حول أحداث مِفصلية من التاريخ السياسي الجزائري؛ بدايةً كيف تقدمون أنفسكم للقـراء؟
نحن ننتمي إلى كتلة الأوراس العميقة، تحديدا للبلدية المختلطة أريس (مسقط رأس بن بولعيد)، والمتحدث سليل قبيلة السراحنة وهي قبيلة عربية خالصة من بني هلال (عرش السراحنة والشرفة) قد قدمت في القرن السابع الهجري عن طريق المُعزّ بالله، بعد الفتوحات الإسلامية التي قادها التابعي عقبة بن نافع القريشي، والتي اتخذت من الزاب الشرقي موطنا لها. أما الشرفة فقد قدموا من الساقية الحمراء.
مقاطعا.. تحديدا، أين يقع عرشكم جغرافيا؟
انحدر من عرش كيمل الذي يمتد من زريبة الوادي إلى السفح الجنوبي لقمة شلية (قمة لالة كلثوم أعلى قمة في الجزائر)، يحيط بنا حزام من الأعراش البربرية، فمن الشمال جبل تامزا (أولاد يعقوب) وبني أوجانه (يـابوس) وغربا أريس عرش التـوابا (مسقط رأس بن بولعيد) وتكوت عرش بني بنو سليمان( زلاّطو) والجنوب الغربي الغواسير(مشونش بني احمد)، ومن الجنوب الشرقي مشونش وبسكرة، وسلسلة جبال أحمر خدو (أولاد عبد الرحمان وأولاد أيوب وبني ملثم فيها مغارة لجأ إليها أحمد باي في الأيام الاخيرة) والزاب الشرقي سيدي عقبة وليانة والفيض وزريبة حامد ونقة سيدي ناجي، وشرقا الولجة “شبلا” وخيران وبوحمامة ولبراجة رئة الاوراس (لم يروا فرنسيا حتى اندلاع الثورة) وعرش بني ملول.
كيف تم التطبيع بين قبيلتكم الهلالية الوحيدة التي وجدت نفسها في قلب وعمق القبائل البربرية(الشاوية)
قد اندمجت قبيلتي اندماجا سريعا وكليا مع المحيط، من خلال المصاهرة ومعاملات الحياة العامة، حتى غدوا يتحدثون الشاوية بطلاقة. وبالمقابل، هذه القبائل البربرية أصبحت تتكلم العربية الفصحى (عامل التأثير والتأثر).
كيف تصف لنا مسقط رأسك كيمل التي قدِّر لها أن تكون سّرة الثورة من خلال احتضانها مقر القيادة؟
كيمل وبني ملول والبراجة تقع على صهوة جبل، وهي منطقة غابية تعج بالأشجار والاحراش، ذات تضاريس معقدة يكسوها غطاء نباتي كثيف،ما أهَّلها لأن تكون مهدا للثورة، وهي التي استقبلت الأفواج الطلائعية الأولى للفاتح من نوفمبر، خاصة أنها تتوارى عن أنظار الإدارة الفرنسية لوعورة مسالكها، مما جعلها طيلة أيام الثورة منطقة محررة حرة بحرائرها ورجالها، كانت في بدايتها ملجأ آمنا للقادة الخارجين عن القانون الفرنسي (حسب تعبير القضاء الفرنسي)، كونها واقعة تحت القسم الثاني (أريس) من التنظيم الحزبي (حزب الشعب انتصار الحريات والديمقراطية).
كيف تقدّم لنا عائلتك التي كانت بيت علم وسياسة؟
والدي الشيخ عمر بن بلقاسم هلايلي واحد من علماء العرش الثلاثة، باديسي إصلاحي. أما جدي بلقاسم فقد كان “مقدما ” للزاوية الرحمانية، ووالدي بعد أن تلقى تعليمه القرآني وعلوم الشريعة ومبادئ اللغة (النحو والصرف والبلاغة وعلم العروض) في خنقة سيدي ناجي، التي أقيمت فيها حضارة ومنارة علمية تشع بالعلم والمعرفة، انتقل إلى قسنطينة وتحديدا للمعهد الباديسي، نهل ما تيسر له من العلوم والمعارف، وتشبع بقيم ومبادئ الجمعية التربوية والإصلاحية، حتى سمى أصغر أبنائه “عبد الحميد” تيمنا بالعلامة ابن باديس.
مقاطعا.. ماذا عن الشيخين العالمين المتبقيّين؟
الثاني هو الشيخ سي محيي مصطفى (من الأشراف) وثالثها الشيخ العلامة احمد السرحاني (من الاشراف) كان له دور محوري في رفع غبن الأمية على سكان المنطقة، وكان منتسبا لجمعية العلماء، مما مكنه من فتح مدرسة في قرية المجاورة الولجة، بإمكانات السكان المتواضعة، كان فيها الشيخ السرحاني المدرس والمدير والمراقب، ثم انتقلت المدرسة إلى قرية تاغليسيا (جبل درقا) كان فيها الشيخ سرحاني أستاذا يدرس كل المواد، ثم عاد الشيخ إلى مشونش التي قدم منها المرة الأولى إلى قريتنا.
ماهو الدور الذي لعبه والدك الكريم العلامة المنتسب لجمعية العلماء المسلمين؟
ظل والدي متطوعا ملتزما بتعليم القران الكريم وعلوم الدين واللغة، ومربيا مٌصلحا للنشء، مفتيَ الناس في كل شؤونهم، رافضا ما عرض عليه من وظائف بالإدارة الفرنسية، محاولة منها ثنيَهُ عن دوره التعليمي والتربوي في المنطقة المثمر. وقد أوفد نجله البكر بلقاسم الذي سمّاه تيمنا بوالده إلى المعهد الباديسي بقسنطينة، بمعية كل من أحمد السرحاني المناضل الكبير وعاجل عجول الذي أصبح قائدا ثوريا.
كيف وهبت عائلتكم أبناءها للثورة؟
أكمل..والدتي تسمى كحول علجية، كانت مدرسة قائمة بذاتها رغم أنها كانت أمية، تنحدر من عرش والدي،الذي شكل مع شقيقه علي عائلة موحدة ومنسجمة في السلم والحرب، والدي وهبه الله خمسة ذكور، وهبهم بدوره للثورة المجيدة، وعمي علي له ثلاثة ذكور سقطوا شهداء في ساحات الوغى والشرف، وقد اعتقل عمي وشقيقي محمد الطاهر في الأسبوع الأول من اندلاع الثورة لأنهما كانا يحوزان سلاحا، حيث تعد البندقية والمرأة في موروثنا مقدسان، وهما ذروة سنام شرف كل عائلة.
كيف عاشت العائلة مأساة الاعتقال، وكم مكثا في السجن وأين وما هي التهم الموجهة لهما؟
مكث عمي وشقيقي سنتين في سجن قسنطينة بتهمة حيازة السلاح، بعد الخروج منه التحقا بالثورة، ولم يبق سوى الأطفال والنساء الذين تعرضوا للمضايقات والمداهمات والتعذيب(المادي والنفسي)، ليلتحق جميع أفراد العائلة مع نساء المجاهدين اللواتي فررن بجلدهن من فضح الاغتصاب الذي مارسه الجيش الفرنسي انتقاما من أزواجهن الثوار، والتحقن بخط النار تحت حماية جيش التحرير، والشيء نفسه بالنسبة لكثير من العشائر والقبائل المجاورة، وقد شذ عن هذه القاعدة والدي الذي كان في حالة متقدمة من الشيخوخة والمرض، وقد نكل به الاستعمار عبر عملية جراحية تجريبية عبثية مات على إثرها.
متى كان مولدكم وكيف نشأتم، وكيف كان مساركم الدراسي؟
جئت لهذه الدنيا سنة 1934 بكيمل، تعلمت في البداية ما تيسر من القرآن الكريم، ومبادئ علوم الدين واللغة على يد والدي، ثم التحقت بالمدرسة التي افتتحت في المنطقة على يد الشيخ السرحاني، كفرع عن جمعية العلماء المسلمين، ثم انتقلت سنة 1952 إلى قسنطينة وتحديدا للمعهد الباديسي، ثم شددت الرحال سنة 1953 إلى تونس قاصدا جامع الزيتونة، مستكملا مساري التعليمي، حتى اندلعت الثورة في الفاتح نوفمبر 1954، حينها عدت بعد 20 يوما من اندلاعها للبلدة، بنية الالتحاق بالثورة وقد تم ذالك، بعون الله.
هل تضرب لنا مثالا عن أسماء رافقتك في المرحلتين البادسية والزيتونية؟
زملائي باديسيون وزيتونيون، منهم الدكتور عبد القادر زبايدية وعبد الحميد سعداوي وعبد الوهاب عثماني ولخضر وزاني والرائد حمودة عاشوري والدكتور بلقاسم سعد الله.
كيف التحقتم بالثورة التحريرية، ومتى انضممتم إلى صفوف جيش التحرير؟
التحقت بالجيش التحرير في 1955( 3 أشهر بعد اندلاعها) تحت قيادة عاجل عجول، بعد ثلاثة أشهر من الإعداد والتحضير، رغم رفض والدي الذي كان يدفع بي لاستكمال دراستي،لكن كنت منذ طفولتي على اتصال مستمر بعاجل عجول بحكم العمومة والمصاهرة، وكنت أساعده في كتابة التقارير وتحرير المراسلات، والرد على البريد.
نعود إلى صلب النضال في المنطقة، كيف تأسست خلايا الحركة الوطنية عندكم في أريس خاصة وفي الأوراس عامة؟
تأسس أول قسم في أريس لحزب الشعب على يد المناضل العتيد مسعود بلعقون (1946 ـ 1947)، وقد تم اعتقاله ليعوضه محمود شريف عكشة (من عرش بن بولعيد نفسه)، كان له دور بارز وخاصة أنه كان موظفا في الإدارة الفرنسية مما مكنه من تزويد بن بولعيد ببطاقات هويات مزورة يستعملها المناضلين لإفلات من مخلب المستعمر، الذي كانت عيونه مغروسة في كل مكان، وقد استفاد مثلا الزعيم ايت احمد من هذه البطاقات التي تمكن بواسطتها من السفر للخارج والالتحاق بالوفد الخارجي بالقاهرة عشية اندلاع الثورة.
كيف واصل بن عكشة قيادة قسم أريس؟
تم اعتقال بن عكشة ليتم تعويضه بعاجل عجول، هكذا استلم الأخير قيادة القسم الأول، وعلاقتي بعجول ضلت متينة مما مكنني من بالتعرف على وجوه قيادية تاريخية من الحركة الوطنية إلى الحرب التحريرية، التي كانت تحضر للثورة، من بينهم القائد الفذ بن بولعيد ومصطفى بوستة وغزوي مدور ومسعود بن عيسى وعمر بن بولعيد وعلي بن شايبة وعمار معاش المدعو “المشاينوار” وشيحاني بشير وسوفي عبد الحفيظ،وغيرهم من القادة.
ما لذي استفدت منه نضاليا من خلال قربكم من عاجل عجول، خاصة حسكم المبكر بالقضية الوطنية؟
الشرف الثاني، وعبر عاجل عجول دوما، تمكنت من التعرف على مجموعة 12، أعضاء “لوس” الذين وجهتهم القيادة بعد كشف المنظمة الخاصة، ألى أن يجعلوا من الأوراس مخبأ لهم، كونها حصنا حصينا، من بينهم بن طوبال وبيطاط والعربي بن مهيدي وبن عودة، وجلهم تعرفت عليهم في بيت عاجل عجول، لأنهم كانوا كثيري التردد عليه، بهدف التحضير الثورة وما تقتضيه من اجتماعات ولقاءت دورية.
من هي مجموعة 12 وكيف وصلت للمنطقة، وما سر وجودها في هذا التوقيت بالذات وما هو الدور الذي قامت به؟
جلبهم بن بولعيد بعد تكليفه بوستة مصطفى الذي جلبهم من قسنطينة عبر سيارته وعلى دفعتين وهم في حالة تمويه تام بارتدائهم الملاية القسنطينية (لباس تقليدي)، وبقيت مجموعة 12 المطاردة منتشرة في أكناف اريس حتى سنة 1953، وقد لعبوا دورا جد هام،من خلال التوعية والتحسيس والتعبئة والتجنيد، وكانوا يقدمون في المنطقة على أساس انهم موفدين مراقبين من طرف القيادة المركزية للحزب، حتى لا يكتشف أمرهم من خلال عيون المستعمر.
كم مكثت وكيف غادرت؟
في الانتخابات المحلية سنة 1951 التي ترشح لها بن بولعيد، والتي طالها تزوير مفضوح من طرف الإدارة الاستعمارية، ففجر حالة غليان لدى المواطنين، الذين قاموا بتكسير صناديق الانتخابات وانتشرت أحداث شغب وفوضى عارمة، هنا خشي بن بولعيد على سلامة مجموعة 12من رد فعل السلطات الفرنسية التي باشرت عمليات الاعتقال والسجن، فأرجعهم سالمين إلى قسنطينة.
كيف عايشتم الأيام الأولى من التحاقكم بجيش التحرير؟
قربي الدائم من عجول جعلني أعيش التحضيرات التي سبقت الثورة، وعند عودتي من الزيتونة بعد عشرين يوما من اندلاعها وبعد اعتقال شقيقي وعمي بدأ الضغط الرهيب علينا كوننا من عائلة عاجل عجول، فالتحقت بفوج صالح شنخلوفي التابع لعجول، وقد استعملني ككاتب شخصي له لمدة 5 أشهر، ثم التحقت بعدها بخلية النشر والطبع التي أنشأها بن بولعيد ليلة 1 نوفمبر، وقد اختار لها مغارة في جبل “الأشعث” المتاخم لجبل أمهارة شرقي مدينة أريس شمال تكوت في أراضي عرش بني بوسليمان.
ما هي مهامها والدور المنوط بها؟
دورها هو نشر الوعي الثوري والتحسيس والتعبئة والرد على ادعاءات وإشاعات العدو عبر المناشير ورسائل التعزية للشهداء والتهديد للعدو والشكر للمناضلين، وكان هذا المركز تحت عين عاجل عجول وبقيت في ناحية عجول حتى سنة 1956.
كم كان عدد خلية النشر، وما هي المهام الموزعة عليكم، وكيف كنتم تسيّرونها؟
كنا ثلاثة شبان وأنا رابعهم، وكنا كاتبين منهم المتحدث بالعربية ومجاهد أخر يتحدث بالفرنسية، والرابع مزدوج اللغة، والعتاد في خلية النشر كان يحتوي على راقنتين واحدة بالفرنسية والأخرى بالعربية، وناسخة “رونيو” تشتغل بالكحول والستنسيل، وكنا نتلقى الأوامر مكتوبة بخط اليد والرسائل والمناويل والتقارير
من أين تتلقون الأوامر، وكيف؟
الأوامر تصدر من طرف القيادة التي تبرقها وترسلها في وقت واحد للافواج، بهدف إبلاغ الجيش الفرنسي أن الثورة منتشرة في كل مكان وان القيادة فاعلة وموحدة.
كيف واصلتم مهمتكم في هذه الخلية؟
بعد خمسة أشهر، التحقت في آخر سنة 1955 بمركز قيادة عاجل عجول في تمنشارت في قمة مطلة على قرية الولجة، ثم مركز بوجدار،وهو مركز سري، وبقيت ملازما لعجول حتى أكتوبر 1956 عشية محاولة تصفيته في حضرة العقيد عميروش (سنعود لتفاصيلها في الحلقات القادمة)
من المسؤول الميداني على هذا المركز؟
مركز القيادة تحت مسؤولية عباس الغرور،الذي فوض عجول بالإشراف وتسير إدارة مركز القيادة.