(…) إنه زمن ترامب وزمن اليمين واليمين المتطرف، وزمن تفشي الفكر الكولونيالي والغطرسة الفاشية الصهيونية وزمن والدونية. إنه زمن بن غفير وسموتريتش والنتن..ياهو في المشرق الذين عاثوا في الدنيا فسادا. لكن هذا وحده لا يكفي بالرغم من استئناف الحرب وظهور كل الأزمات الداخلية للكيان الصهيوني، خاصة منها الأخيرة وما نجم عن إقالة رئيس الشاباك وكذا الأزمة الدستورية مع المستشارة القضائية للحكومة جراء محاولات الانقلاب على المؤسسة القضائية، إلى جانب حالة اليأس وكل ما يحيط بذلك والحركة التي بدأت تتفشى في صفوف المجندين والطيارين الرافضين لأداء الخدمة العسكرية (بعد العريضة التي صدرت عن الطيارين العسكريين للمطالبة بإيقاف الحرب تلتها عريضة أخرى من جنود وضباط المدفعية يطالبون فيها بإيقاف الحرب وصدرت يوم السبت عريضة ثالثة هذه المرة من الأطباء في الجيش الصهيوني يطالبون كذلك بضرورة توقيف الحرب).
رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، أولمرت الذي قاد الاعتداء والحرب على لبنان في 2006 وخسرها وفشل فشلا ذريعا، وعُوقِب وتمت ملاحقته بسبب فشله ثم محاكمته وسجنه، يلقي بصرخة مدوية عشية عيد الفحص اليهودي على صفحات يومية هآريتز محذرا من مخاطر اندلاع حرب أهلية تهدد المجتمع الصهيوني معلنا أن الكيان على حافة حرب أهلية وشيكة، مقدما الدلائل والبراهين والأسباب والذرائع في مقدمتها ما تقوم به شرطة بن غفير ومليشيات سموتريتش وباقي المتطرفين المسلحين ومليشيات المستوطنين التي قد تهاجم الكنيست (البرلمان) في كل لحظة وتطرد أحزاب المعارضة وكل المعارضين لنتنياهو وحكومته الفاشية وغير الراضين على ما تقوم به مثلما فعل بلطجية الليكود في المحكمة العليا هذا الأسبوع عند استدعائها للنتن.. ياهو واستجوابه مدة إحدى عشرة ساعة، وقد بدت البرلمانية كالي قوتليب (صديقة النتن ياهو) في حالة جنون منقطعة النظير وكلها عويل وصراخ وشتم وتهديد للمحكمة، مما دفع رئيس المحكمة إلى طردها من القاعة في واقعة فريدة من نوعها.
وتأتي صرخة أولمرت غداة استدعاء النتن..ياهو من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يوم انتقاله إلى المجر (واحدة من البلدان القليلة جدا التي يدخلها النتن..ياهو آمنا بدون الخوف من اعتقاله تنفيذا لمذكرة الاعتقال الصادرة من محكمة الجنايات الدولية التي تطلب اعتقاله كمجرم حرب في حق الإنسانية). طبعا الفاشستي المجري فيكتور أوربان صديق ترامب، لا يعترف بمحكمة العدل الدولية ولا بقراراتها وأحكامها، بل يتمادى في الهجوم عليها مثلما يفعل النتن..ياهو وزمرته وترامب دفاعا عن الصهاينة.
كان النتن..ياهو ينتظر من ترامب أن يداريه في تحقيق أهدافه، وعلى رأسها الهجوم على إيران وتدمير قدراتها النووية. وكان ينتظر من ترامب أن يسانده بكل حزم في حربه على غزة بتنفيذ وعده بتهجير الغزاويين وهو (النتن..ياهو) الذي يعوي ملء حنجرته، أنه لا يريد من غزة أن تكون “حَمَاسْ تَانْ” ولا “فَتْح سْتَانْ”؟ أكيد أنه يريدها “بيبي ستان” نسبة لـ بيبي (كنية الدلع لنتنياهو) مثلما كتبت صحيفة هآرتس في عيد الفصح.
ذهب إذن إلى البيت الأبيض وتفنن في التزلف والشكر والمجاملات والتطبيل والتهليل بإلحاح كبير لهُبل ترامب وهوسه في الحرب الاقتصادية التي يشنها ضد العالم أجمع، لكن الذي حدث في البيت الأبيض كان نصف ما حدث للرئيس الأوكراني زيلنسكي، بحيث أعطاه ترامب نصف ما قام به إزاء الرئيس الأوكراني، يوم سقاه بهدلة أمام الكاميرات التلفزيونية.
بعيدا عما دار في الأماكن المخفية، وبعيدا عما كان يصبو إليه بيبي، صرح ترامب للعلن كاشف عن المفاوضات المباشرة مع القيادة الإيرانية فيما يخص برنامجها النووي، مما صدم النتن..ياهو فسكنت وجهه ملامح الحيرة وبدا مندهشا مصدوما أمام تصريحات حليفه. ومما زاد في اندهاش وهلع النتن.. ياهو هو إلحاح الرئيس ترامب أمام كاميرات التلفزيون على ضرورة إتمام المرحلة الثانية من الصفقة مع حماس مع الذهاب لإنهاء الحرب حسب ما جاء في الإعلام الصهيوني بكل توجهاته لدى تغطيته للحدث. يقدمون ذاك طبعا مع تأكيد ترامب على الاستمرار في إمداد المساعدة الأمريكية لدولة الكيان (4 مليار دولار سنويا).
هذا يدفعنا إلى الوقوف عند مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة وفي مقدمتها المطالبة بضرورة عودة الكيان إلى المفاوضات لاستكمال المرحلة الثانية وتحرير الرهائن، مركزين على ما يجب أن يبذله النتن..ياهو وحكومته من مساعٍ لعدم العودة إلى الحرب. إلا أنهما يعملان على الابتعاد عن المفاوضات واستئناف الحرب خدمة لمصلحة بقاء حكومتهم وبقاء النتن..ياهو على رأس الحكومة، لذا هما يريدان التصعيد والعودة إلى الحرب ونسف المرحلة الثانية التي تنص على ثلاثة نقاط أولها وقف الحرب بشكلٍ دائمٍ وثانيها الانسحاب من غزة وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين الفلسطيني والصهيوني. (للتذكير.. أتت هذه الحرب على 50 ألف شهيد و20 ألف مفقود و120 ألف مصاب؟).
ويفكوف المفوض الأمريكي السابق، الذي شرع في التفاوض المباشر مع حماس في الدوحة خلال النصف الثاني من شهر رمضان كان يدرك جليا وضع حماس. فهم (الأمريكيون) يدركون أن حماس ليست بالقوة العظمى وإنما هي حركة تراعي معاناة مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة الذين يعيشون في عز شهر رمضان في حالة مجاعة شاملة وتامة لا تزال مستمرة إلى الآن. أما النتن.. ياهو فلا يزال يراهن على أنه في استطاعته أن يفعل ما فعله مع الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن ووزير خارجيته بلينكن المتصهين للغاية، وهو عراب الحرب الصهيونية على غزة بحيث كان يذهب إلى الكيان ويخبرهم بما يجب فعله لتقتيل المزيد من الفلسطينيين ثم يخرج من الاجتماع مع كبينة الحرب ليقول “نريد المساعدات ونريد وقف الحرب” وكلام من هذا القبيل كان كله حبرا على ورق لا معنى له ولا طعم له ولا نكهة، له سوى نكهة الخبث والنفاق والدونية سعيا منه لبث صورٍ لمّاعة للكيان ولأمريكا في الساحة الدولية.
والنتن.. ياهو كان يظن أنه في استطاعته الاستمرار على هذا النحو بعد لقائه الأول بالرئيس ترامب خلال الأسبوعين الأولين من استلامه مقاليد الحكم وقبل الزيارة المشهودة نهاية هذا الأسبوع إلى البيت البيض والتي عاد منها مكسور الجناح خائبا. فاتضح للعيان أن أسلوب الرئيس ترامب الأهبل، أسلوب مغاير تماما، فهو يسلك أسلوب رجل أعمال، أي أنه يعتبر كل شيء كصفقة بيع وشراء، وهو بذلك يقوم بالحوار دائما في اتجاه واحدٍ وهو إبرام الصفقات. والصفقات عنده تنتهي بالتفاهم والتوقيع على الاتفاق، فهو يريد أن يصل إلى صفقة لإطلاق سراح الأسرى خاصة الجنود من يحملون الجنسية الأمريكية.
ومن أجل بلوغ ذلك يطرح قضايا كثيرة منها الدفع باتجاه قبول الكيان الصهيوني بهذا الشيء، وتخفف بذلك من الضغط على الوضع داخل الضفة الغربية، لأنه في النهاية للرجل أجندة كبيرة جدا داخل العالم العربي، ويريد أن يهيئ العالم العربي للمرور إلى المرحلة الثانية من اتفاقيات أبراهام (صفقة العصر)، ويريد أن يجعل من المنطقة العربية سوقا كبيرة للمجال الأمريكي (مستعمرة ضخمة) تجعله يتحدى بها روسيا ويتحدى الصين والوقوف بالمرصاد لتدخلها في إفريقيا والعالم العربي. ولهذا الأمر يخوض معركة مع حلف الناتو وأوروبا، ولا يريد أن تكون أوروبا متحدة متماسكة في شكل قوة، بل يريد إضعافها وتَدْفِيعَها ثمن حماية أمريكا لها.
لقد قام ترامب في هذا الشأن بست إجراءات يمكن أن تعطي الانطباع للعالم وللكيان الصهيوني، أنه جاد في مسعاه. ومن هذه النقاط الست أنه إرضاء للكيان طرد سفير جنوب أفريقيا وإعلانه شخصا غير مرغوب فيه، لأن جنوب إفريقيا هي التي قادت معركة اتهام الكيان الصهيوني ورئيس حكومته ووزير الدفاع فيه بالجريمة ضد الإنسانية وإصدار قرار مذكرة توقيفهما من المحكمة الجنائية الدولية وتأييدها المطلق للقضية الفلسطينية.
أما النقطة الثانية فهي ما قامت به أمريكا في اجتماع الدول السبع الأكثر نموا في العالم ودفعتهم في آخر اجتماع لهم في أوروبا، إلى استبدال مصطلح “حل الدولتين” بعبارة أخرى مرادفة وهي بقاء الشعب الفلسطيني مقابل السلام.
وهناك كذلك في المقام الثالث تدابير اتخذها تدعم مسعاه وإبراز الوجه اللائق به أمام الصهاينة كالإجراءات ضد الطلاب الأمريكيين والجامعات الأمريكية التي تقوم بمظاهرات التنديد بجرائم الكيان صهيوني ومناصرة الشعب الفلسطيني، وكذلك اعتقال عدد كبير من طلبة جامعة كولومبيا، كل هذا التصعيد وهذه الإجراءات يعطي للكيان الرسالة الأمريكية التي مفادها “نحن نحارب في الشارع لمناصرتكم والتقليل من العداوة المنتشرة والمتزايدة ضدكم في الشارع الأمريكي”.
وهناك نقطة رابعة وهي المتمثلة في الحظر المطلق المطبق على إحدى عشر دولة من السفر إلى أمريكا، ومن بين هذه الدول خمس دول عربية، وطرح ثلاث دول إفريقية لتهيئتها لاستقبال الفلسطينيين في يوم من الأيام، وهذه الدول هي في الأصل معدومة اقتصاديا واجتماعيا وهي (الصومال وشمال الصومال والسودان).
إن تعاسة وضع هذه الدول الثلاث، قد يجعل دحر الفلسطينيين ورميهم في غياهب الذوبان وقتل كل أمل للمطالبة بحقوقهم المشروعة.
أما حماس فلقد أكدت على وجوب وجود نقطة واضحة في الاتفاق ما بين المرحلتين، ضرورة فرض عودة الفلسطينيين الذين يخرجون من غزة بهدف العلاج أم لأمور شخصية أخرى، أي فرض حرية العودة لهؤلاء لإلغاء قضية التهجير. ولقد غير ترامب من موقفه في قضية التهجير وتراجع عن ذلك بقوله منذ أسبوعين: “لن ندفع بتهجير الفلسطينيين من غزة بشكٍل قصري”، ولكنه في نفس الوقت يرسل رسائل تَطْمِينِية للكيان الغاصب على أساس الانتباه والتحكم في الوضع من أجل أن يقوم الرئيس الأمريكي بتطبيق أجندته العالمية التي لا تتعارض بشكل صارخ مع أجندة الصهاينة…يتبع…
بالرغم من أن الحكاية مستوحاة من شخصيات وأحداث حقيقية إلا أن الكاتب لجأ للسرد الروائي بغرض الترفيه.
مونتريال، صلاح شكيرو