تمر الأزمان و تتعاقب الأجيال و تتوارث الثقافات و الديانات في الغالب، مع بعض الاستثناءات حيث تنتشر هنا و تنحسر هناك لأسباب عديدة و متنوعة. والحمد لله أن منّ علينا و فضلنا على كثير من الناس حين جعلنا مسلمين موحدين في دولة مسلمة دستوريا. رغم أن تطبيق التعاليم الدينية ليس متاحا بالكلية و يختلف باختلاف المراحل السياسية و التغيرات الاجتماعية.
المتفق على أن شخص متدين اليوم ليس كالمتدين قبل خمسمائة سنة. يكفي المتدين اليوم أن يجتنب المحرمات – علنا- و يطلق لحيته و يقصّر ثوبه أحيانا محافظا على صلواته في وقتها. أما في الماضي فكان المتدين حافظا لكتاب الله دارسا للفقه و الشريعة، معتكفا في المسجد زاهدا في مُتع الدنيا.
في زمن طغت المصالح الاقتصادية على حساب النسيج المجتمعي و تآلفه، وعلى حساب التمسك بتطبيق الفرائض و النوافل من العبادات، أخذت الأموال مكانها في حياة الناس و عقولهم وأصبحت الثروة في أول أهدافهم. تأثرت التعاليم الدينية بهذا التحول في بورصة التدين، وأصبحت خاضعة في الكثير من الأحيان للمستوى المادي والقدرة على توفير مستلزمات ذلك التدين الظاهري على أكمل وجه. بداية من تجارة المسك والسواك أمام المسجد قبل صلاة الجمعة، إلى الأضحية الأغلى ثمنا و أكبر و أسمن كبش في السوق.
إنني اعتبر التجارة سعيا جيدا لكسب الرزق و عملا مستحبا و مباركا ما دام بعيدا عن علاقة العبد بربه. أما إن فُرض على المجتمع فرضا وتأثرت تلك العلاقة، رغم أن جوهرها لا يعلمه إلا الله .
الناس في العلن لا ينظرون إلى الداخل للمسجد مرتديا قميصا أبيض وبيده مسبحة فاخرة، كما ينظرون إلى رجل بسيط بثياب عادية رغم انه طاهر القلب و البدن. إن مؤشر بورصة التدين يوم الجمعة مرتفع عن بقية أيام الأسبوع لأن العبادة تكلف أكثر. و المؤشر في أيام الشعائر الإسلامية المقدسة و الأعياد الدينية أرفع و أرفع. لقب ( الحاج) مثلا أصبح يكلف الملايين. الحاج الذي تطهر من ذنوبه و عاد كيوم ولدته أمه، لكن في مجتمع لا يرى من الحاج غير لقبه الذب يدل على ترفه أكثر مما يدل على تدينه.
تأتي بعد الحج أضحية العيد، التي أتعبت المواطن البسيط و أسالت عرق الموظف و أغرقت رب العائلة في الديون و أبكت الأرامل و الأيتام.
يقول القائل بأن أضحية العيد ليس فرضا على المسلمين بل هي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، فأقول بأن المجتمع هو من جعلها في مقام الفريضة، نعم من باب تعظيم شعائر الله و تمسكا بالسنن كما الفرائض، حين كان الأمر ممكنا و سهلا على غالبية الناس. حيث كان من الغريب والمؤسف أن تجد من لا يستطيع القيام بهذه الشعيرة. حتى أنني استغربتُ – قبل زمن طويل- حين أخبرنا رب العمل أنه لن يشتري كبشا و لن يضحي في يوم تضحي فيه كل الناس. استغربت لأنه مقتدر و بإمكانه شراء عشرة كباش إن هو أراد ذلك، لكنه لن يفعل لأنها ببساطة سُنة و ليست بفرض وهو بالكاد يؤدي الفرائض.
مازال وجود شخص لا يذبح الأضحية في يوم العيد أمرا غريبا بعض الشيء، لكن في المقابل يتكلف من يفضل أداء الشعيرة ثروة كبيرة يمكن أن تسد مصاريف أكثر ضرورة من تتبع السنة النبوية.
ما زاد في الطين بلة هو استقواء التجارة و تحكم الأموال كما ذكرنا في البداية، حيث أن عيد الأضحى هو موسم الربح الوفير لتجار الماشية، إنه عيدهم الذي ينتظرونه كل عام لتحقيق المكاسب التي عجزوا عنها طوال السنة. لا نقول بأنه أمر سيء و لا نُجرم تجارة الماشية إذا كانت في المستوى المعقول و المقبول. إذا لم تجعل من يوم العيد مأساة لأشخاص أخرين.
و إن أردنا أن نذكر التدابير التي تقوم بها الدولة للتخفيف من قسوة تجار الماشية على البسطاء، فلا بد أن نذكر أيضا أنها محدودة و انتقائية في الغالب دون الخوض في التفاصيل و الشروط، و هي فوق ذلك لا تعدو كونها صب كوب من الماء النظيف في برميل من الماء المالح، فأي أثر سيكون؟.
أما الحلول فهي ظلال قاتمة على شاشة سوداء، لا أثر لها تحت أضواء الواقع و أمام سلطة البورصة الدينية.
كما تتحكم الأموال في شتى نواحي الحياة، هي للأسف تتحكم في مستوى التدين بمفهومه المعاصر. و ما علينا إلا محاولة الموازنة بين تجارة التدين الظاهري و المحافظة على الجوهر الحقيقي للدين و هو العلاقة الصادقة بين الإنسان و خالقه.
لويزة موهوب