• محمد الخّامس استعاد صَوْلجان مُلكه الضائع بفضل ثورة الجزائر
• اكتشاف «لـوس» وتعفّن الصراع بين المِصاليين والمَركزيين عجّلا باندلاع الثورة
الـحــلــقة الثانية:
يواصل ضابط جيش التحرير عن الولاية الأولى أوراس النّمامشة الرائد محمد صغير هلايلي، في الجزء الثاني من هذه الشهادة التاريخية الثرية، الحديث عن المخاض الذي سبق ميلاد الثورة المظفرة، بدءا بالإبادة الجماعية عشيّة مسيرات 8 ماي 1945، ذاك القمع الوحشي الذي قابل به المستعمر مواطنين عزل، تركت جرحا غائرا في النفوس، وقطعت الشك باليقين عند المناضلين بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، مرورا بانتخابات “إنجلن 1948” التي تعرضت لتزوير مفضوح، جعلت الوطنيين “يغسلوا يديهم” من النضال السياسي السلمي مع الإدارة الفرنسية، بالمقابل بزغ خيار الحل “العنف” الثوري بقوة عشية اكتشاف المنظمة السرية الخاصة “لوس” 1950، وأثارها المدمرة على الحزب والمناضلين، الذي كرسه نزاع “الضرائر” بين المصاليين والمركزيين، الذي منح صراعهما الضوء الأخضر لخيار الكفاح المسلح، الذي تبنته اللجنة الثورية للوحدة والعمل، التي رأت في هزيمة فرنسا المذلة في معركة “ديان بيان فو” فرصة لنجاح الفعل الثوري على المستعمر وعدم استحالته، كل هذه التفاصيل من العوامل الداخلية والإفرازات الإقليمية والتداعيات الدولية التي مهدت للفاتح من نوفمبر المجيد، تجدونها في الجزء الثاني من هذه الشهادة الحصرية
ــــــــــــــــــــــ فـاروق مـعـزوزي ــــــــــــــــ
كيف واصلتم مَهمّتكم في هذه الخلية؟
بعد خمسة أشهر، التحقت في آخر سنة 1955 بمركز قيادة عاجل عجول في تمنشارت في قمة مطلة على قرية الولجة، ثم مركز بوجدار، وهو مركز سري، وبقيت ملازما لعجول حتى أكتوبر 1956، عشية محاولة تصفيته في حضرة العقيد عميروش (سنعود لتفاصيلها في الحلقات القادمة)
من كان المسؤول الميداني على هذا المركز؟
كان مركز القيادة تحت مسؤولية عباس الغرور، الذي فوض عجول بالإشراف وتسير إدارة مركز القيادة.
ماذا عن التقسيمات والمسؤوليات المتبقية في الأوراس؟
في عهد انتصار الحريات الديمقراطية، كان مسؤول عمالة الأوراس الطاهر بوسيف ومسؤول الدائرة إبراهيم حشاني، وقد خلفه محمد لغواطي، ليسلتم شيحاني بشير زمام الدائرة عشية انطلاق الثورة،
أما قسم أريس، فكان على رأسه مسعود بالعقون، فيما كان عباس لغرور على رأس قسم خنشلة ، أما قسم بوعاريف فكان على رأسه طاهر نويشي غمراس (الذي يقع بين أريس وباتنة)، هؤلاء كانوا يشرفون على المنطقة الواقعة بين شرقي خنشلة وجنوبي بسكرة وباتنة وهي منطقة غابية ذات مسالك وتضاريس وعرة، مما جعلها حاضنة آمنة لانطلاق الثورة، ناهيك عن الدور المحوري الذي لعبه بن بولعيد في استقبال الثورة، خاصة عندما تأكد له أن المنطقة صارت جاهزة من خلال إعداده ومراقبته لها.
ماهو الدور الذي لعبه بن بولعيد للتنسيق بين هذه الأقسام؟
لم يكن بن بولعيد يستطيع الخروج بشكل مريح، لأنه كان تحت الرقابة اللصيقة من طرف المصالح الأمنية الفرنسية، إلا انه استطاع تحريك جميع المناطق من خلال تفعيله وتحينه المستمر للشبكات النائمة للمنظمة السرية “لوس” ، وهذا العمل الجدي والدؤوب يعد النواة الأولى التي تكونت في المنطقة ، من خلال الأعراش والعشائر والقبائل المربوطة به والذين يثقون به ويثق فيهم، هذه الثقة المتبادلة مكنته من اختيار أفضل المناضلين، ومن كل قبيلة خيرة أبنائها لتحضير أنفسهم للثورة.
كيف كانت جهود مسؤولي الأقسام في إقناع المناضلين بضرورة الكفاح المسلح؟
جهود رؤساء الأقسام في تحضيرهم للثورة جعلت الأوراس مقتنعة بخيار بن بولعيد والدعوة للثورة، مستغلا الانقسام الحاد بين المركزيين والمصاليين، مما مكن المناضلين من الانشقاق، وهذه شجاعة وجرأة منهم، وموقف يحسب لهم، ولذلك كان اختيارهم قائما على المناضلين العقائديين، فمثلا قسم أريس الذي كان على رأسه عجول الذي خلفه على الترتيب كل من مسعود بلعقون ومحمود بن عكشة، حيث تمكن من اختيار 800 مناضل، ينتظرون فقط الأوامر لحمل السلاح ، وقد تم تدريبهم على خوض حرب العصابات واستعمال السلاح، والإعداد النفسي بالتخلي عن أموالهم وأهاليهم ومواجهة الأخطار، حيث سيصبحون مطاردين وسيتم إيذاء أهلهم، وذالك لا مناص منه.
ما هي طرق التعبئة والتجنيد وكيف تمت العملية؟
قامت قاعدة نضالية صلبة تحت 3 أقسام منظمة ومرتبة ومجاورة، منها قسمي خنشلة وبوعريف هذان الأخيران كان عددهم معتبرا يكفيهم بالقيام والتنفيذ المهمة، كما تم تزويد قسم خنشلة بنحو 30 مناضلا من قبيلة بني اوجانه، بأمر من بن بولعيد بإرساله لدعم وتقوية قسم خنشلة، وجل المناضلين هم بالأساس أعضاء في المنظمة السرية ، علما أن كل المناضلين المجندين قد اقسموا بأغلظ الإيمان أن يكونوا رهن قرارات الحزب.
ما سرُّ تمسّك بن بولعيد بالفعل الثوري وتجاهله العملَ السياسي؟
كان بن بولعيد، منذ التحاقه بالمنظمة الخاصة ، يشتغل على نقطة واحدة جوهرية وهي تهيئة وتحضير الرجال للثورة، بماله وعلاقته، وكثف نشاطه بعد اكتشاف المنظمة الخاصة سنة 1950، عبر كل ربوع الوطن باستثناء الاوراس، فصارت المنظمة الخاصة ممثلة في منطقة واحدة وهي الاوراس، التي أصبحت مأوى آمن لكل المطاردين والفارين من أعضاء لوس، حيث دخل بن بولعيد في سباق مع الزمن للتحضير للثورة.
هل وُجدت عوامل داخلية شرعنت لفكرة أولوية الكفاح المسلح على حساب الحل السياسي؟
مسيرة 8 ماي 1948، وجريمة الإبادة التي تعرض لها الجزائريون الذين سحقتهم ومحقتهم الوحشية الاستعمارية قطعت الشك باليقين عند أنصار الحل الثوري، في قناعة منهم بأن ما أُخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة وأن العمل السياسي لا يفيد مع المستعمرين، الذين نكثوا عهودهم وخانوا الجزائريين، بعد تجنيدهم إجباريا في الحرب العالمية الثانية، تحت وعود بتمكين الجزائريين من حقوقهم، حيث فرضت على كل عائلة أن تقدم احد أبناءها أو تجلب احدا لهذه المهمة، لكن بعد انتصارهم خانوا العهد وخذلوا الجزائريين، الذين خرجوا مذكرين المستعمر بطريقة سليمة بعهوده المنكوثة، فأستقبلهم بالدبابات والاغتيالات والاعتقالات.
ما هو الأثر – سلبيا كان أو إيجابيا- الذي خلفه الكشف عن المنظمة الخاصة لوس؟
اكتشاف لوس بعد سنتين من جريمة الإبادة في 8 ماي 1948 كان خطرا، له بالغ الأثر على الحزب والمناضلين الذين تحولوا إلى فارين ومطاردين من طرف القضاء الفرنسي، ومن طرف الحزب الذي خيرهم بين تسليم أنفسهم للقضاء الفرنسي، بالمقابل يتكفل الحزب بانتداب محامين يتكفلون بالدفاع عنهم، أو تسفيرهم للخارج، ناهيك عن احتدام الصراع المرير والنزاع المزمن بين المصاليين والمركزيين، ربما الشيء الايجابي في هذه الظروف الصعبة هو بزوغ الخيار الثوري الذي شرع في شق طريقه بقوة.
ما هو العامل الإقليمي وخاصة جهود مكتب المغرب العربي في القاهرة، الذي كان ينسّق من أجل إشعال الثورة في كل من تونس والجزائر والمغرب دفعة واحدة ضد عدو مشترك؟
بخصوص العامل الإقليمي والخارجي، نضال تونس والمغرب والجزائر الموحّد ضد المستعمر، من خلال التنسيق عبر مكتب المغرب العربي الذي كان يرأسه الخطابي في القاهرة، توصل الأشقاء الثلاثة إلى اتفاق بإعلان الحرب بصفة جماعية على المستعمر العدو المشترك، لكن هذا الاتفاق قد خانه بورقيبة وأجهضه تحت الطاولة مع الفرنسيين بقبوله الاستقلال الذاتي لتونس، حيث مكنته السلطة الفرنسية من العودة من منفاه، والشيء نفسه بالنسبة للملك محمد الخامس، الذي استعاد ملكه عندما أعادوه من سجنه ومنفاه للمغرب على حساب ثورة الجزائر.
كيف استفاد المناضلون من هزيمة فرنسا المخزية في الهند الصينية ؟
الهزيمة المذلة للفرنسيين في الهند الصينية (الفيتنام) في معركة ديان بيان فو عززت من ثقة المناضلين، وكرست قناعتهم بضرورة الذهاب للكفاح المسلح، وأن أسطورة فرنسا لا تهزم قد تبخرت.
نعود إلى الأوراس، ماهي مبررات بن بولعيد التي جعلته ينتزع حقَ تكوين “لجنة الدفاع عن الحريات ممن جاء لقمع الحريات ” ! ؟
بعد الانتخابات المحلية سنة 1951 والتي خاضها بن بولعيد وفاز فيها، وتم تزويرها واستبداله ببن خليل عن حزب البيان، اندلعت أحدث شغب كبيرة، هنا طالبت السلطات الفرنسية من القياد بأن يجعلوا على رأس كل جبل مجموعة من الحراس للحد من التحاق المجاهدين التونسيين كادعاء ظاهر، مخافة أن تثور المنطقة ضدهم هذا العامل جعل بن بولعيد يتحرك ويطلب من السلطات الفرنسية بتشكيل لجنة الدفاع عن الحريات لحماية المناضلين، وقد استجابت السلطات لطلبه وتم تأسيس اللجنة وقد شارك فيها عن حزب البيان بن جلول وأوزقان عن الشيوعيين ، والشيخ العربي التبسي عن جمعية العلماء ، ودماغ العتروس.
كيف أقنع بن بولعيد الفرنسيين بقبول مقترحه؟
ثمة حادثة لحقت امرأة جزائرية تم إجهاضها من طرف طبيب يهودي بطلب من الجنود الفرنسيين فذهب بن بولعيد للطبيب وكان بقرية المدينة وطلب منه منحه شهادة طبية حول سبب إجهاض المرأة رغم علمه انه تم إجهاضها من طرف الجنود الفرنسيين عبر المداهمات، لكن الطبيب حرر له الوثيقة على أساس أن قطاع طرق هم من قام بالفعل الشنيع ، هذه الوثيقة استعملها بن بولعيد ضد الفرنسيين وأقام عليهم الحجة على تشكيل لجنة الحماية والدفاع عن الحريات التي استجابت لها السلطات الفرنسية على مضض.