في كل الثورات هناك صنفان من الناس، الصنف الأوّل يصنع الثورة، والصنف الثاني يستفيد منها.
“نابليون بونابارت”
كل عام نودّع أكتوبر ونستقبل نوفمبر…
أكتوبر- نوفمبر، شهران متتاليان في التقويم الميلادي، ورمزان متقابلان في مخيال الأجيال المتعاقبة. نوفمبر صنع تاريخ الجزائر الحديثة بالتضحيات والآلام والجراح، وأكتوبر أريد له أن يلغي هذا التاريخ ويلقي به في المزبلة.
“التاريخ في المزبلة” كلمات قالها أطفال المدارس، وردّت صداها شوارع مدننا في أكتوبر 1988. كلمات قاسية قابلها البعض بالدهشة، والبعض الآخر بالاستنكار، لكن لا أحد استخلص العبرة آنذاك،.ويبدو أن لا أحد يريد اليوم استخلاصها، بعد أن انفرطت من عقد نوفمبر أكثر من 65سنة، وانصرم من عمر أكتوبر ما يقرب 31 عاما. وأخطر من ذلك ما نشهده في أوساط بعض النخب من محاولات مبيّتة لمقابلة نوفمبر بأكتوبر، وكأن الفصل في قضايانا الراهنة يمرّ بالضرورة بهذه المقابلة- المعارضة، والأمر تعدى محاولة رمي تاريخنا في المزبلة إلى إلغاء جزء منه نعتقده مضيئا مشرقا، واستبداله بجزء آخر مؤلم لا أحد منا يعرف من صنعه وما الغاية من صنعه.
أكتوبر ضد نوفمبر تتم أحيانا بشكل مؤلم حين ينظر الجزائري إلى أوضاعه فلا يرى فيها إلا السواد والانسداد، فلا مجد في ماضيه ينجذه، ولا بريق في مستقبله يعزّيه. لذلك لا يجد أمامه من سبيل سوى جلد النفس والتنكر للذات، وقد عبّر عن هذه الحالة بمرارة أحد رموز الثورة الجزائرية ياسف سعدي بقوله: “كنت أبعث الناس إلى الموت، ومات منهم كثير، لكن لو عاد هؤلاء الشهداء لقالوا لي: حرام عليك، يا سي ياسف، لو كنا نعرف مصير البلاد بعد أكثر من 40 سنة لما ضحينا بأنفسنا، ولما أقدمنا على التضحية”.
الموقف الثاني أكثر انكشافا لخصّه بأحسن صورة سعيد سعدي من منظور لائكي حداثي بقوله: “يجب الانتقال من تمجيد قيّم الثورة إلى تكريس المثل العليا للجمهورية وفضائل الحداثة”.
الموقفان يصبّان في معادلة معارضة نوفمبر بأكتوبر،الأوّل يعبّر عن خيبة أمل الذين صنعوا أمجاده، أما الثاني فيطمح إلى استبداله بشرعية أخرى مشكوك في أمرها. معلمان تاريخيان على طرفي نقيض هي في اعتقادي رؤية قاصرة، لأنها تفصل التاريخ الوطني إلى محطات تُلغي الواحدة الأخرى، وتحوّله إلى مجرد قطائع سخيفة لا استمرارية فيها، ولا روح.. تاريخ يُشبه الفسيفساء الباهتة.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة من التنكر لذواتنا، ونبذ التاريخ الخاص؟ ما من شك أن نوفمبر تعرّض كغيره من اللحظات الكبرى في تاريخ الجزائر إلى تشويه وتحريف رهيبين. حرّفه التدوين الكولونيالي بتصويره كصراعات وتصفية حسابات وحرب عصابات وقطّاع طرق، وحرّفه ثوّار ربع الساعة الأخير والطابور الخامس، الذي استولى على مقاليد تسيير الدولة بعد الاستقلال، وزيّفه أيضا –للأسف الشديد–أولئك الذين صنعوا أمجاده ومآثر نوفمبر. ذلك أنهم انطلقوا من مقولة أن التاريخ ذاكرة الأمّة ومصدر إلهامها وضمان استمراريتها في الزمن. لكن هذه المقولة سرعان ما تحوّلت إلى شعار أجوف سيّس إلى أقصى حدود التسييس، ووُظف لصالح خطاب سياسي شعبوي يبحث عن مبرراته في شرعية موهومة ومشكوك في أمرها. وهكذا أفرغ نوفمبر من ديناميكيته التحريرية وطاقته الاجتماعية الخلاّقة، واختزل في عنصر مجنّد فقط لصالح نخب سياسية قادت البلاد منذ 1962 إلى الإخفاق والإحباط، ودخلت في صراعات وتنافرت، كان التاريخ هو محركها ورهانها. لكن الذي حدث هو توظيف رموز التاريخ، سواء أكان أحداثا أم أشخاصا وحتى مناطق، توظيفا سياسويا في إطار لعبة التوازنات وتصفية الحسابات.
كان بن بلة يعتبر نفسه رمز نوفمبر الأوحد، وبومدين وارثه الشرعي، والشاذلي ضامن استمراريته، وبوتفليقة الرمز والوارث والضامن في آن واحد. وبهذه الصورة وقعت المصادرة الكبرى على نوفمبر، وهى التي هيأت الأرضية الملائمة لما يحدث الآن من محاولات مقابلة نوفمبر بأكتوبر(أكتوبر ضد نوفمبر) وهي المحاولات التي تسعى إلى إقناع الناس بأن نوفمبر استنفد طاقته المجنّدة ورمزيته الخلاّقة. لذلك يؤكد هؤلاء على ضرورة تعويضه برمزية جديدة، وحين بحثوا عنها وجدوها في أكتوبر، والغريب في الأمر أن دعاة الرمزية الجديدة فاقدون لشرعية نوفمبر وفاقدون كذلك لشرعية أكتوبر الموهومة، فهم أنفسهم كانوا يؤكدون أن أكتوبر هو صخب أطفال.. وهو حركة تاريخ عفوية.. وهو مؤامرة دبّرتها السلطة.. وهو من صُنع يد أجنبية خفية… الخ. كيف لهذه النعوت أن تتحول إلى مرادف، بل إلى ملغ لرمزية نوفمبر؟
لقد حاولت كل التيارات في السر والعلن أن تسترجع لصالحها المنافع السياسية لأكتوبر. ما اصطلح على تسميته بالتيار الوطني حاول أن يتبرأ من أكتوبر حفاظا على شرعيته الثورية التاريخية، أي على مصالحه، التيار الديني وظّف لصالحه حوادث أكتوبر لإضفاء مسحة وطنية على حركته وخطابه، التيار البربري الذي أدان أكتوبر في البداية سرعان ما استدرك خطأه لإضفاء محتوى اجتماعي على مطالبه الثقافوية، التيار الديمقراطي جعل من أكتوبر تعلّة لتبرير وجوده..
وكل هذه المحاولات تسعى في نهاية المطاف إلى تكريس نوفمبر كحرب وليس كثورة وتحويل نوفمبر إلى ميتافيزيقا باردة، تلغي الرمز وتستدل باللا معنى!..