الـحــلــقة الخامسة والأخيرة:
- سُجن معي الهاشمي قروابي الذي اتهمته الجّبهة بأنه مخبٌ يعمل ُ لصالح فرنسا
- كنت مقرّبا جدا من الرئيسين بن بلة وبومدين دون علمهما بأني حارس بلونيس
- عميمور كان يناديني أمام بومدين “قرطال العظيم” دون أن يعلم بكوني “ميصاليست في الدم”
يختمُ الحارس الشخصي لـ محمد بلونيس حمود قرطال صاحب 84 سنة شهادته في هذه الحلقة الخامسة، والتي يتحدث فيها كيف تم أسره من طرف الجيش الفرنسي في عين لحجل، ثم الزّج به في محتشدات بئر غبالو، ليعود إلى حيّه بمقارية، حيث وجد نفسه ملاحقا ثم مسجونا من طرف جيش التحرير الوطني، مباشرة بعد وقف إطلاق النار في مارس 1962. ويسرد لنا المتحدث كيف ساقته الأقدار ليصبح مهندس صوت لخطابات رؤساء الجزائر أحمد بن بلة وهواري بومدين، دون أن يتفطن له أحد يكونه “مصاليست في الدمّ”، وكونه الحارس الشخصي لـ محمد بلونيس الذي خونته جبهة التحرير وحكمت عليه بالتصفية. كل هذه التفاصيل وأخرى يرويها لنا في هذه الحلقة الأخيرة من شهادته الحصرية لـ “أخبار الوطن”.
ــــــــــــــــــــ فـاروق مـعـزوزي ــــــــــــــــ
أُسرد لنا ظروف اعتقالكم وكيف تم القبض عليكم؟
في أوت 1959، أُلقي عليّ القبض رفقة جنديين كانا معي، وهما ابراهيم من الرويبة وحمود من جيجل، حيث أسرنا من طرف كتيبة كاملة كان على رأسها الملازم سيلوز، تكونت كتيبته من الحركى، أما المكان الذي تم فيه اعتقالنا، فكان منطقة سلاّمات (تقع جنوبي عين الحجل) ما بين البراردة وأولاد سيدي إبراهيم،في الثالثة زوالا.
مقاطعا..ماذا عن تفاصيل الاعتقال؟
لست أدري هل كانت ثمة وشاية وتم تقفوا أثرنا، أو يكون الأمر كله محل صدفة؟ كنا وسط الخيمة التقليدية حتى تم تنبيهنا بوجود كتيبة مقبلة تتقدمها شاحنات الجيش الفرنسي، حاولنا الهروب لكن دون جدوى؛ فالكتيبة كبيرة تتكون من 70 عنصرا من الحركى والجيش الفرنسي، تمت مطاردتنا وأطلقوا علينا وابلا من الرصاص، فأصبت في يدي ورجلي اليسرى، في حين لم يصب الرفيقان، لكن تم تطويقنا جميعا، وتم أسرنا ثم نقلنا للمركز العسكري التابع للصاص في عين الحجل.
كيف سارت مجريات الأحداث بعد أسركم؟
قاموا بتقديم الإسعافات الأولية للمصابين الجرحى، وقامت بعملية التطبيب ابنة محيو والي عين وسارة آنذاك، وقد مكثتُ يومين عندهم، ثم تم نقلي لسيدي عيسى حيث تم إخضاعي للتحقيق من طرف الملازم سيلوز، ناهيك عن التعذيب التي تعرضت له من طرف الحركى، وقد شفع فيّ الملازم عندما قال الحركى وهم يعذبونني “لا تعذبوه سنعدمه غدا”، فتوقفوا عن تعذيبي.
مقاطعا..ما الذي حدث بعد هذا التحقيق وتوقيف التعذيب؟
سحلت من طرف اثنين من الحركى إلى غرفة في وسط المركز العسكري المقابل لصاص في سيدي عيسى، في منتصف الليل،وكنت اعتقد أنهم سيقتلونني في مكان غير معروف، لكن بعد أن أدخلوني إلى مركز لصاص وتم رميي في غرفة منفردا، هنا فهمت أن الضابط سيلوز كان يريد تخويفي وترويعي وليس قتلي.
كيف انتهى بكم المطاف؟
انتهى بي المطاف رفقة الزميلن، عندما تم نقلنا في الغد إلى بئر غبالو، حيث تم زجنا في المحتشد وبقيت فيه من أوت 1959 إلى شتاء سنة 1961،حتى أنني لم أراسل العائلة وخرجت وتوجهت إلى موطن الصبا في حي “ليفيي” سابقا مقارية حاليا.
مقاطعا..هل استأنفت نضالك عبر خلايا حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية؟
رغم أنه تم جبرنا من طرف الإدارة الفرنسية بتسجيل حضورنا الأسبوعي من خلال التوقيع في مخافر الشرطة، واصلت النضال، خاصة عندما جاء المسمى “كاتستروف” المكنى بالمصيبة من فرنسا موفودا من طرف مصالي الحاج لتنشيط خلايا الحركة الوطنية، وتفقد نظام الحركة، وقد تنقلت معه شخصيا هنا في الجزائر كما سافرت معه حتى إلى تلمسان، لاتصال بأوفياء النظام والحركة ومصالي، من بينهم العربي حميدو.
نجحت جبهة وجيش التحرير الوطنيان في افتكاك الاستقلال بقوة السلاح، كيف عايشتم اللحظات الأولى من الاستقلال؟
لم أكن فرِحا بالاستقلال، لأن الجبهة قبضت عليّ في مارس 1962 تزامنا ووقف إطلاق النار، حيث أخذوني من بيتي عن طريق شخصين أعرفهما جيدا قدما من رويسو لمقابلة “الكابتان” سليمان في دار جماعة ورموني أمامه وقالوا له هذا “ميصاليست في الدم، ومائة بالمائة”.
مقاطعا..ماذا كان ردكم على هذه التّهمة أمام النّقيب سليمان؟
قلت له أنا لست “ميصاليستط وإنما “وطنيّست”، وأنا جد متأسف من هؤلاء الناس الذين جلبوني إليك، فأحدهم كان من جماعة (Blue) بمعنى أزرق “بيّاع” والثاني “سوكارجي” بمعنى عربيد، ولا علاقة لهما بالثورة، والثالث لما كنت أنا في الجبل أحارب في فرنسا كان هو مجند في الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، ولولا احترامي لأبنائهم والحرص على عدم تشويهم، لذكرت أسماءهم وسلوكي هذا يعد من الأخلاق السياسية التي تشبّعت بها من الحركة الوطنية.
كيف كان ردّ فعل النّقيب سليمان على مرافعتك والدفاع عن نفسك؟
قال لي: هل حقا كنت في الجبل؟، قلت له نعم، سألني مجددا هل حاربت ضد جيش التحرير، فأجبته:لا إلا ما تعلق بالدفاع على النفس، قال لهم أرجعوا به إلى الحي الذي جلبتموه منه وإياكم أن يصيبه أي مكرو. هنا قاطعته وقلت له يا سيدي أفضل أن أرجع بمفردي، وقد استجاب لي وهو مشكور على ذالك، وقد عدت وحدي راجلا.
مقاطعا..وهل انتهت مطاردتك بعد هذه الحادثة؟
كلا؛ بعد أسبوع فقط، جاءني عنصران من حي بلكور وأخذوني، وتعرضت على يديهم إلى التعذيب، وبقيت مسجونا عندهم في منزل، كنا محتجزين في غرفة ومن بين الذين كانوا معي الفنان الهاشمي قروابي، المتهم – حسبهم – بأنه مخبر لدى المصالح الأمنية الفرنسية، بل ضغطوا عليّ كي أقول عنه إنه عميل للمصالح الفرنسية، وأنا لا أعرفه عنه هذا!
كيف استمرت ظروف الاعتقال؟
بقيت في هذا المنزل محتجزا لمدة 20 يوما،حتى سادت فوضى عارمة بين مناضلي الجبهة حتى أنهم كانوا يقدمون لنا أسلحتهم لتنظيفها ثم نرجعها لهم، ونسوا أننا مساجين عندهم، فاستغليت تلك الفوضى وغادرت ذالك المنزل رفقة خمسة من المسجونين الذين كانوا معي، وقد علمت لاحقا أنه الجبهة صفّت الأخوين صنديد اللذين كانا محتجزين معنا.
هل أفهم منكم أنه بعد وقف إطلاق النار مباشرة، نفّذت جبهة التحرير اعتقالات في حق المنتسبين للحركة الوطنية؟
تعرض مناضلو الحركة الوطنية وأنصارها والمتعاطفين معها، بعد وقف إطلاق النار، للتصفية وليس للمطاردة فقط، وذلك عبر التراب الوطني. راح ضحيتها خيرة كوادر وقيادات الحركة الوطنية؛ فمثلا في الحي الذي أقطنه “ليفيي” مقارية حاليا تم تصفية لخضر بن عطف ومحمد ملال،
مقاطعا..كيف قضيتم حياتكم كمدني بعد الاستقلال؟
بعد تلك الظروف الجد قاسية، وبعد وقف إطلاق النار وموجة التصفيات والاعتقالات التي سُجّلت، التحقت بالتلفزة الوطنية كموظف بمهنة سائق لمدة 3 أشهر، ثم انتقلت إلى القسم التقني ثم كمسؤول في قسم “الروبرتاجات” كتقني صوت، حتى غادرت التلفزيون متقاعدا سنة 1996.
عايشت كل اللحظات الفارقة والهامة مع رؤساء الجزائر، فكنت دوما بجوار الرئيس احمد بن بلة من خلال جولاته داخل وخارج الوطن، كما بقيت ملازما لرئيس هواري بومدين طيلة حكمه حتى فارق الحياة، سافرت معه داخل وخارج الوطن، وقد كان يقدمني إليه محي الدين عميمور تحت اسم قرطال العظيم، كوني برعت في هندسة الصوت، ومن وقتها صار يناديني بومدين بقرطال العظيم، وقد ذكرني محي الدين عميمور في أحد كتابته وأثنى عليّ.
هل كانا أحمد بن بلة يعلم بأنك “ميصاليست” للنخاع، وأنك كنت الحارس الشخصي لـ محمد بلونيس الذي حكمت عليه الجبهة بالتّصفية؟
إلى غاية هذا الحوار،لا يعلم أحد من محيطي المهني أو غير المهني أني “مصاليست في الدم”، وكلهم كانوا ينادوني بالمجاهد، ولا يعلمون إني كنت مجاهدا في الضفة الأخرى وليس التي يقصدونها، والوحيد الذي كان يعرف هذا السّر هو شقيقي بلقاسم قرطال، الذي كان منتسبا لجبهة التحرير وكان عضوا بارزا في “المالغ”، والذي أصبح إبان الاستقلال مترجما لرئيس الشاذلي بن جديد.
كيف عايشت اللحظات التي كان بن بلة ثم بومدين يتكلمان فيها عن خيانة مصالي وبلونيس وغيرهم من رموز الحركة الوطنية؟
كنت أتألم في صمت، وكنت أتأذى كثيرا عندما يأتون على سيرة مصالي الحاج ويصفونه بالخائن. بصراحة، جرحت كثيرا ولكني حافظت على الهدوء بالصبر واليقين بأني على حق، بل ربطتني علاقة جد طيبة وودودة مع كل رؤساء الجزائر، كما كان اقرب المقربين لي عيسى مسعودي مدير الإذاعة، الذي قمت وتحت إشرافه بجولة ماراطونية إلى كل من القاهرة ودمشق والأردن في حربي 1967 و1973 للوقوف على المعاينة الإعلامية للجيش الوطني الشعبي المشارك في الحربين. وكان دوما عيسى مسعودي يمازحني كل ما رددت له قولي: “أنت كي كنت تأكل في الصبا،أنا كنت نجاهد عليك”، كان يغرق في الضحك، ولم يكن يعلم أبدا بحقيقتي.
نختم معكم هذا الحوار بأن نفسحَ لكم المجال لقول كلمتكم الأخيرة؟
جاءني العديد من المجاهدين التابعين لجبهة التحرير، وخاصة المنحدرين من حي مقارية (ليفيي) وهم على علم بأني “ميصاليست للدم”، وعرضوا عليّ أن يكونون شهودا حتى أحصل على بطاقة مجاهد وأحصل على التقاعد من وزارة المجاهدين، شكرتهم واعتذرت منهم ورفضت العرض وأنا مقتنع تمام الاقتناع بموقفي، وفاء مني لوعد قطعته عندما انضممت للحركة الوطنية على رأسها مصالي الحاج، حين قسمنا اليمين على المصحف بأن نبقى على العهد لا نحيد ولا نخون ولا نبدل. وإني متيقن – إلى غاية إجراء هذا الحوار وأنا في عمر 84 سنة- أني على صواب وعلى حق دون تعصب أو حقد أو غل، بل أفتخر بـ “ميصاليتي”، وإن كانت هناك جملة أختم بها هذه الشهادة المثل الفرنسي القائل “يوجد نبات يقول أنا أموت حيث ولدت”.