بقلم: د. جمال بلعربي
هي الظاهرة نفسها نجدها لدى جميع فئات المجتمع، غير أننا نهتم أكثر بفئة المنتسبين إلى المثقفين لأنهم الأكثر ظهورا عبر وسائل الإعلام وعبر التظاهرات الثقافية، ولأنهم الأكثر تعبيرا عن مشاكلهم، الحقيقية والوهمية، والأكثر بكاء واحتجاجا وتكميما للأفواه بالسلاسل في المرافق العمومية، أي أنهم الأكثر صخبا وشوشرة، بينما تكتفي الفئات الأخرى، في المجال الاقتصادي والعلمي والديني، بطرح مشاكلها داخليا ومع قطاعاتها بعيدا عن الصخب الإعلامي وبعيدا عن الصفحات الرقمية. وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن نتخذ من فئة المنتسبين إلى المثقفين عينة معبرة بصدق وشفافية عن الاختلالات والتناقضات التي يخفيها المجتمع. فالفئة التي تعبر، حتى عندما لا تجيد التعبير، يمكن أن نستعمل تعبيرها مادة للتحليل تساعدنا على فهم المرحلة واضطراباتها وانسدادات سياساتها وأفكارها.
الأنتلجنسيا، بالتعريف، طبقة المثقفين النقديين، في الأنظمة السياسية المتسلطة، وهي طبقة صناع الفكر وبلورة المفاهيم والقيم في الأنظمة التي تقوم على دكتاتورية البروليتاريا، مهما اختلفت تسمياتها وشعاراتها. لكن مر الزمن وطحنت العولمة الجميع وأفرزت الحياة الاجتمعاية الخفيفة “اللايت”، طبقة جديدة هي طبقة المؤثرين، صناع المحتوى، كبديل عملي عن هذه الطبقة، وهو بديل منزوع المسئولية لأنه أساسا بديل سريع التلف، وقابل للتدوير وإعادة التدوير.
أمام هذا المأزق اكتشفت الأنظمة الاجتماعية المتشكلة بصورة استعجالية، وارتجالية، وتقريبية، والتي كانت تصطف وراء صناع الأفكار لدى أحد المعسكرين، متنازلة عن حقها في التفكير وعن واجبها في طرح الأسئلة واقتراح الأجوبة التي تشق بها طريقها نحو الراهن قبل المستقبل، اكتشفت أنها تيتمت، وصار عليها أن تجد لنفسها مخرجا، وبصورة استعجالية مرة أخرى، فعجزت هذه المرة حتى عن الارتجال والتقريب.
في مثل هذه المجتمعات، نطرح سؤال الأنتلجنسيا، أو الطبقة المثقفة ولا يهمنا كيف تكون تسميتها. هل يحمل هذا السؤال معنى؟ وهل يمكن للمفهوم نفسه أن يحتوي على مضمون حقيقي تفرزه السياقات الاجتماعية؟
نتحدث عن مثقفين بين قوسين وعن طبقة مثقفة دون أن نستند إلى تعريف واضح لمفهوم الطبقة ولا لمفهوم المثقف. نرتجل المضامين، وربما لا ننتبه إلى ضرورة تحديدها بوضوح قبل أي تحليل. نعم، هكذا في مجتمعاتنا لا نشعر بالحاجة إلى تدقيق المفاهيم عندما نناقش، ولا عندما نحلل. نكتفي بارتجال السلاسل الصوتية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصطلحات مترجمة، ففي أغلب الأحيان نشحنها بمعان من اختراعنا، نعتمد في بلورتها على التداعي الحر وعلى قدرتنا الاشتقاقية من الكلمات المقترحة لترجمتها. نعم، نحن نحلل ونناقش بمفاهيم تكاد تكون فارغة من المعنى في معجمنا الذهني. نحن نهذي و”نبلبل” كما يقول مالك بن نبي.
نعتقد أن طبقة المثقفين ليست مجرد ناد يتشكل بأمر من جهة ما أو بمبادرة فردية في لحظة حماس زائد، بل يجب أن ينضج المجتمع إلى الحد الذي يستطيع معه أن يظهر فيه إدراك حيوي ملح إلى ضرورة تشكل نخب تؤدي وظيفة تلبية حاجات هذا المجتمع إلى الأفكار والقيم والمفاهيم التي يتطلبها للمحافظة على توازناته وحيويته وارتقائه. عندها فقط يتشكل أصحاب بعض المهن المعرفية المعينة في صورة طبقة اجتماعية يمكن أن نسميها طبقة المثقفين أو النخبة أو الأنتلجنسيا. وهي تتشكل حسب المواصفات التي تناسب طبيعة النظام الاجتماعي الذي تظهر فيه.
ما عدا ذلك، لا يمكن أن تنجح أية فبركة ترقيعية. لقد حاولت الأنظمة السياسية، المتولدة عن موجة حركات الاستقلال في منتصف القرن الماضي، أن تصطنع لنفسها نخبا طيّعة وقادرة على سد الفراغ، لكنها في النهاية لم تنجح سوى في صناعة مجموعات من الكومبارس ترسلهم لتمثيلها في المنتديات الثقافية العالمية عن طريق مجرد تسجيل الحضور، دون أية وظيفة ولا أثر. ولم تخلف تلك الـ”نخب” وراءها سوى التناقضات والرداءة والأحقاد. لقد كانت التجربة فاشلة، ولم تكن لبنة في بناء أي صرح لأنها بطبيعتها لم تكن تملك القدرة على ذلك.
ثم جاء الفراغ. واكتشفنا أن الأنتلجنسيالا تقبل التلفيق ولا الترقيع ولا تسجيل الحضور الشكلي فقط من أجل ملء الفراغ حول الموائد والإكراميات. بل اكتشفنا أن أفراد “النخبة” المفترضين غير قادرين على الاشتغال كفئة ذات أدنى حد من الانسجام كي نعتبرها فئة، بل هم يشتغلون بشكل متنافر، وفي كثير من الأحيان، بشكل متضاد ومتناقض، مما يجعلهم يتبادلون التعطيل والعرقلة، والوشاية والتخوين، والإقصاء بجميع أنواعه وبجميع أساليبه، الذي قد يصل إلى قطع الأرزاق بكل صراحة، وإلى الحرب البيولوجية.
في هذه الحالة، نعتقد أنه من الأفصح أن نتحدث عن “أنتلجنسيا مضادة”. وهنا، وبهذا المعنى، يمكن الحديث عن طبقة حقيقية، متماسكة، ومتضامنة، ووفية لمبادئها، فالذي تقرّر أن تمارس عليه حربها البيولوجية يجد نفسه في مواجهة كتلة قوية جدا وحازمة وصارمة، تتوارث الإقصاء وتتضامن من أجل تنفيذه، حتى بعد زوال أسبابه.إن الشيء الأساسي الذي يجمعها ويمنحها شيئا من الهوية هو هذا التضامن من أجل الإقصاء.
تتمثل وظيفة هذه الفئة في العمل بكل حرص وجدية على منع تشكل النخبة الحقيقية، وفي تعطيل كل مبادرات الأفراد والمجموعات الصغيرة التي قد تطمح إلى التغريد خارج السرب. والتغريد هنا ليس بالضرورة ضد المؤسسات ولا ضد البرامج الحكومات المعلنة، بل في أغلب الأحيان يكون تغريدا ضد الرداءة ومن أجل بعث الروح في المؤسسات المهملة والمشاريع المنسية والكوادر المهمشة. فهذه تهدد مصالح “الأنتلجنسياالمضادة”، بل تهددها بالاندثار كلية. ومن وسائلها لتحقيق ذلك استعمال الفضاء العام والتنظيمات والاعتمادات المالية الموجهة للمجتمع المدني، واستغلال التراخي القانوني والفوضى التنظيمية، لتخلق تظاهرات ثقافية “تمويهية”، ولتستحوذ على البرامج والمشاريع الرسمية وتكرس وجودها من خلالها وتستثمرها في النيل من المال العام، وفي نشر الرداءة بجميع أشكالها.
يصب كل هذا في عملية التصحير الفكري والثقافي الذي يدفع المشاريع الفردية إلى التلاشي في صمت الهوامش وحرقة الإهمال، أو التيه في شوارع الجنون ومقاهيه وفراغات أريافه، أو الهجرة، للانتعاش في عوالم ثقافية أوسع وأكثر إنسانية وإبداعا وتقديرا للعمل الخلاق. وهذا يعني أن المادة الخام التي يفرزها المجتمع لتتشكل منها الأنتلجنسيا، عندما لا تجد التربة المناسبة في أرضها، تأخذها الرياح إلى أراض أخرى أنسب لها وهناك تتحول إلى خامة قابلة للتشكل حسب مواصفات الأنتلجنسياالمستقبلة.
إن ما نسميه بمنظومات ما بعد الكولونيالية، وربما من الأصح أن نسميها بكل صراحة وبالتعبير المباشر والدقيق، المنظومات الكولونيالية لما بعد الاستقلال، من طبيعتها أن تكون دائما جاهزة لاستقبال، كي لا نقول استيعاب، المادة الرمادية النابتة في مستعمراتها السابقة وفي مناطق نفوذها المستقبلية الممكنة، ويجب أن ننتبه إلى أن ذلك من طبيعة العمران البشري، وإذا لم تقم تلك المنظومات بهذا الدور سوف تقوم به منظومات أخرى لها نفس التركيبة ونفس المؤهلات لتمارس كولونيالية مشابهة.
في النهاية، نكتشف أن الأنتلجنسيا”الحقيقية” للمجتمعات المتراخية، ذات الكيانات السياسية المتشكلة بطريقة استعجالية، أحيانا نتيجة تصفية غامضة للاستعمار، وأحيانا نتيجة تسويات بين القوى النافذة، وأحيانا في إطار إعادة رسم خرائط معينة، إنما تتشكل كطبقة، أو فئة، تابعة بأتم معنى الكلمة، بنفس المعنى الذي نتحدث به عن التبعية الاقتصادية والتبعية السياسية، والتبعية الثقافية، إلى الطبقة المثقفة للكيان السياسي المهيمن في ذلك المجال الحيوي. فسيرورة الحياة لا تنتظر العالقين في الأسفل، ولا المتأخرين، ولا الذين، كما قال أحد العارفين، فات زمانهم، أي فقدوا قدرتهم على إنتاج الطاقة المولدة لدينامية الحضارة وأصبحوا ينزلقون في متاهات ما ينتجه الآخرون.