بقلم السعيد بوطاجين
جاءت رحلات ابن بطوطة (1304 ــ 1377)في سياق تاريخي مخصوص. ومع ذلك فإننا نغفل أحيانا، أو نتغافل عمّا قدّمه المغرب للمشرق العربي، وقد لا نعرف، بالنظر إلى اهتماماتنا الضيقة، أن ابن بطوطة من مواليد طنجة، وقد لا ندري أن هذا الرحالة المثير للجدل مرّ بالجزائر ذات يوم، قاصدا تونس، ثم بقية بلدان العالم، قاطعا بذلك مسافة تقدر، حسب المؤرخين، بقرابة مائة وعشرين ألف كلم، وهي مسافة لم يحدث أن قطعها أحد من قبل.
لقد حدث أن كانت هناك رحلات كثيرة لأهل المغرب إلى بغداد والقاهرة ودمشق من أجل الأخذ ببعض العلوم، الدينية منها على وجه الخصوص. وكان الإسلام، في العادة، محور هذه التنقلات.غير أن المشرق شهد محنة حقيقية على أيدي التتار والصليبيين الذّين خرّبوا بغداد وقتلوا أربعة وعشرين ألف عالم، ثمّ أحرقوا الكتب وألقوا بالقسم الآخر في نهر دجلة. وهكذا سيسهم المغاربة لاحقا في نهوض الشرق، قبل أن تتعرّض الأندلس لمحنة ستؤدي إلى هجرة جماعية للعلماء باتجاه المشرق العربي.
تعدّ رحلة ابن بطوطة هذه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) سجلاّ لعالم القرون الوسطى. لقد ابتدأت رحلته في سنّ الواحدة والعشرين، واستغرقت ما يقارب الثلاثين سنة من الاستكشافات التي جعلته يلتقي بعدة ملوك وسلاطين في مختلف البلدان، ولأنه كان شاعرا، فقد امتدح بعضهم من أجل الحصول على هباتهم من أجل مواصلة رحلاته المربكة، عكس ما كان يشاع في بعض القراءات.
يقال إنه بدأ الرحلة في رجب عام سبعمائة وخمسة وعشرين هجرية فقصد تونس عن طريق تلمسان ومليانة والجزائر وبجاية وقسنطينة وعنابة. ثمّ زار الإسكندرية والقاهرة مرورا بسوسة وصفاقس وبعض المدن التونسية، ثمّ انتقل إلى دمشق، فالمدينة المنوّرة ومكّة. ومنها إلى العراق وإيران والسودان واليمن ومقاديشووكينيا وتانزانيا والبحرين وبلغاريا وروسيا والهند والصين. قبل أن يعود سنة سبعمائة وتسع وأربعين إلى المغرب،مرورا بمدينة سردينياالإيطالية، ومدينة تنس الجزائرية.
لكنّه لم يستقر طويلا ليرحل مجددا إلى الأندلس، وتحديدا إلى غرناطة، ثمّ إلى جنوب إفريقيا. وفي مدينة فاس حيث استقر، كتب هذه الرحلة الخالدة التي رأت بعض القراءات الغربية أنها من أهمّ ما كتب في الرحلات قاطبة، لذلك تفضل هذه المقاربات ابن بطوطة عن الرحالة ماركو بولو، ذلك انها ترى أنّ الأول كان مثقفا، عالم دين، متمكنا من السياسةوعلم الاجتماع، في حين أن الثاني كان تاجرا يفتقر إلى الثقافة والمعرفة.
تلقّب جمعية كمبردج الرحالة ابن بطوطة بأمير الرحالين المسلمين، كما يعتقد، في بعض الإشارات، أنّه ما تزال هناك عائلة بنابلس (فلسطين) منحدرة من نسل هذا الرحالة الذي لا يتكرر كثيرا في التاريخ البشري برمته، لا من حيث قدراته على النقل، ولا من حيث المدة التي استغرقتها رحلته، ولا من حيث عدد البلدان التي زارها، بعيدا عن بلده وقبيلته الأمازيغية في المغرب الأقصى.
إنّ تمكّنه من العربية والفارسية والتركية جعله يعايش مختلف الشعوب التي التقى بها، ليكون، بالعودة إلى ثقافته، مؤرخا وقاضيا وفقيها جليلا. لقد وصف بدقة الأماكن التي زارها، كما كان سرده راقيا، كأسلوبه في التعامل مع الأحداث والمشاهدات، وبمستوى يكاد يكون متماثلا. كما عدّ كتابه من أهم المراجع في تاريخ الرحلات،ومؤلّفا مهمّا لمعرفة أحوال المسلمين في الهند وفي إفريقيا، بما في ذلك الصراعات بين المسلمين والهنود، وبين الإسبانومن تبقّى من المسلمين في الأندلس.
كما نقل حالات التآمر والخيانات والتجسّس والجرائم والبطش. فعل ذلك بطريقة غاية في الموضوعية، كما يبدو من خلال النقل، مبتعدا بذلك عن أي ميل عاطفي في التعامل معمشاهداته التي لا تحصى، ولما سمعه ونقله عبر السنين. لهذا يرى المؤرخون أن ابن بطوطة حالة نادرة، وغريبة. لقد سبق الغربيين وتفوّق عليهم بروحه العلمية وبنزعته الإنسانية الفاضلة. بخلاف الأوروبيين الذين اتسّموا بالاستعلائية والنزعة الاستعمارية التي ما فتئت تطبع مؤلفاتهم.
عاش هذا الرحالة في وطن اسمه أرض الإنسان، أتقن عدّة لغات وعرف التاريخ والجغرافيا والأدب والأساطير والملوك والصحاري والتقاليد والأعراف والسياسيين،ولم يستقر في بلد ما. لقد كان شعبا وبلدا، وكان جامعة متنقّلة، أكبر من الأوطان والحدود قاطبة. السؤال: هل بمقدورنا حاليا أن نكرر هذه التجربة الراقية؟ إنّ آدابنا بحاجة إلى اهتمام أكبر بهذا النوع من الأدب حتى لا تصبح الرواية طوطما جديدا وجب عبادته. ثمة ما يمكن أن نستفيد منه من هذه الرحالات العميقة، شكلا ومتنا. أسفارنا الكثيرة إلى البلدان العربية والأوروبية لم تنتج كتابات من هذا الصنف النادر في تقاليدنا الفنية، رغم أهميتها الكبرى في إضاءة كثير من الدهاليز التي لا تقدر عليها الرواية لأنها مرتبطة بقوانين وضوابط تمنعها من ذلك، وهي كثيرة. الاستثناءات التي قدمت في الجزائر لا تكفي لمعرفة ما نجهله عن العالم وآثاره ونواميسه. لذا من المهم الاهتمام بتدوين أسفارنا، ومحاولة تقديمها في كتب نافعة، بعيدا عن المسرح والقصة والرواية والقصيدة.
الكتّاب والشعراء والصحفيون والمهتمون بالشأن مدعوون، في حدود عينية، لإثراء الموضوع من أجل ملء هذا الفراغ. المؤكد أن الرواية ذات قيمة كبيرة، شأنها شأن القصيدة والأقصوصة، لكنّ التبئير على جنس أدبي لا يكفي لترقية الأدب بمختلف مكوّناته، بما في ذلك عالم الرحلة الذي يعتبر أحد الفروع المهملة، دون سبب واضح. ما عدا إن كنا نسافر ولا نبصر شيئا، باستثناء الملابس والموضة.