فيصل شريف
من غرائب الغربة، و ربّما من معجزاتها، أنّها ترفع من ذبذبات حبّ الوطن، و تضاعف من درجات الحنين بشكل قد يزلزل الكيان و عند البعض قد يصبح ذلك هوسا و جنونا، و تصبح فيهما النوستالجية ممارسة يومية، و قد تتحوّل إلى إبداع فكري أو ثقافي أو فنّي. إبداعات تحكي و تحاكي الغربة و تناجي الوطن بشوق و حرقة. السرّ في ذلك هو تلك القطيعة مع الأصل و الأهل و الأحبة و الذكريات، و أيضا تلك الحقيقة التي تصدم المهاجرين في الغربة عندما يكتشفون نظرة الآخرين إليهم و يتيقّنون من صعوبة أن تكون أجنبيا في أرض الغير حتّى و إن لبثت فيهم ألف عام و عام.
الغربة صارت واقعا مريرا بالنسبة للجزائريين و لغيرهم من العرب و المسلمين و حتى عند الأجانب القادمين من البلدان الفقيرة أو البلدان الغارقة في الصراعات و الحروب. و لا يختلف الأمر في فرنسا أو في غيرها من دول أوروبا، و حتى في كندا أو أمريكا و لو بدرجات متفاوتة. فغربة الديار و نظرة الآخر زادتهما صعوبة و ألما قبضة الكثيرمن الأنظمة الغربية على ملفّ الهجرة و شدّتها منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 التي جعلت هذه البلدان تشير إليك بسبب أو بغير سبب و تحتاط منك لأنكّ ذو ملامح مغاربية في ظلّ إسلاموفيبا تعدّت حدود المعقول. و حتى الملامح الأخرى تعرف نفس الواقع الصعب.
و للغربة حقيقة أخرى هي على صلة مباشرة بالمهاجرين العرب و المسلمين أنفسهم. ففكرة التوافق و الوفاق و الاتفاق غائبة بينهم، فلا الجزائريون يملكون إطارا تنظيميا و لا المغاربيون و لا العرب و لا المسلمون. الواقع يقول أنّهم مشتّتون شتاتا رهيبا يستحيل به أن تجتمع كلمتهم و يكون لهم كلمتهم. و هو ما يمنع قيام ” لوبي ” بالمعنى الإيجابي للكلمة يمكّنهم من التحاور مع الغير و يساعدهم على التواصل و التأثّر و التأثير.
بفعل الحقائق السياسية و الأوضاع العالمية و بفعل تنامي الفكر العنصري انطوت الجالية الجزائرية و كلّ الجاليات المغاربية و العربية و الإسلامية في فرنسا و غيرها، و مع الوقت انفصل الفرد عن جاليته لأسباب موضوعية أو احتياطا من نظرات اتّهامية أو لغياب الإطار الملائم و أصبح يعيش لنفسه و بنفسه. قد يكون التقصير من الجهات الرسمية أيضا التي تركت الجاليات فريسة واقع لا يرحم، و قد يكون هذا الوضع نتيجة أزمنة من السبات الرسمي حيث لم تلعب فيه السفارات و القنصليات دورها إلاّ في أن تمنح شهادة ميلاد أو شهادة وفاة.
هذه هي حقيقة الغربة عند الجزائريين خاصّة و عند غيرهم من الجاليات المهاجرة، حقيقة تؤكّد أنّ زمن الهجرة اليوم هو ـ ربّما ـ أسوأ زمن على الإطلاق رغم المظاهر الخارجية، و رغم تلك الإبتسامة و الغبطة عند ذلك المهاجر الذي ترك مرسيليا، لندن، روما، مونتريال، نيو يورك… لأيّام ليحطّ قدماه على أرض الوطن في رحلاته طوال السنة. رحلات يحمل فيها كلّ أحزانه و كلّ آلامه و لا يصرّح بها إلاّ عندما يكون قبالة البحر، أو تحت شجرة الزيتون أو فوق رمال الصحراء…