في توقيت يعكس تناقضا مريرا بين أروقة التفاوض وغبار المجازر، تعود المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار بين حركة حماس والكيان الصهيوني إلى الواجهة، بينما تتواصل على الأرض جريمة ممنهجة من نوع آخر، جريمة ” التعطيش الجماعي ” لملايين الفلسطينيين في قطاع غزة.
فقد قدّم الكيان الصهيوني عرضا “محسّنا” جديدا لوقف إطلاق النار، فيما يتوجه وفد من حماس إلى القاهرة بدعوة من الوسيط المصري، على أمل التوصل إلى صفقة تبادل أسرى طال انتظارها.
لكن في المقابل، تزداد حدة الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو، ليس فقط من عائلات الأسرى الصهاينة المحتجزين في غزة، بل ومن داخل الجيش نفسه، حيث ترتفع أصوات جنود الاحتياط وضباط كبار تطالب بإنهاء الحرب وإعادة الأسرى فورا.
وعلى الرغم من هذه الضغوط، يتشبث نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية، بموقفه الرافض لاستكمال المرحلة الثانية من اتفاق تبادل الأسرى، خضوعا لابتزاز شركائه اليمينيين المتطرفين.
ندى عبروس
كل ذلك يجري في ظل كارثة إنسانية غير مسبوقة يتعرض لها أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، بعد أن حوّل الكيان الصهيوني المياه إلى سلاح حرب ووسيلة قتل بطيء، عبر قصف البنية التحتية وتدمير الآبار ومحطات التحلية ومنع الوقود اللازم لتشغيل المرافق الحيوية.
وبينما تموت غزة عطشا، يُواصل العالم تجاهله لهذه الجريمة البشعة، وكأن معاناة العطاشى ليست كافية لتحريك الضمائر، فهل تقود المفاوضات إلى حل؟ أم أن العطش سيبقى الوجه الآخر للسياسة الصهيونية؟ وما مصير الداخل الصهيوني الغاضب من عناد حكومته؟
نتنياهو في قبضة ترامب.. ضغط الصديق قبل العدو
أشارت تقارير عبرية إلى أن الرئيس الأمريكي ترامب بدأ يفقد صبره تجاه استمرار الحرب، وأمهل نتنياهو بضعة أسابيع لإنهائها، ويبدو أن الحليف الأقرب يضغط اليوم بشدة، مدفوعا بحسابات سياسية داخلية، وضغط دولي يتعاظم بسبب الكارثة الإنسانية في غزة.
وجاء التحذير بعد يوم واحد من الاجتماع الذي دار بينهما في البيت الأبيض، حيث أكد ترامب دعمه الكامل للكيان الصهيوني في مساعيه العسكرية، و لكن مع تشديده على ضرورة سرعة حسم الأمور.
فهل سيرضخ نتنياهو لضغط البيت الأبيض؟ أم يختار البقاء السياسي داخل كيانه الهش ولو على حساب مزيد من الدم؟
حيث أن ضغوط ترامب تُعيد رسم حدود المناورة السياسية، وتضع الحكومة الصهيونية بين فكّي أزمة داخلية وخارجية.
جيش بلا يقين .. تمرد الرموز الصهيونية من الداخ”
ما كان يُعدّ ضربا من المستحيل في عقلية الجندي الصهيوني، أصبح واقعًا: التمرّد على الحرب.
فالمئات من عناصر وحدة الاستخبارات 8200، مدعومين بآلاف من الطيارين وعناصر البحرية والاحتياط، باتوا في مقدمة الرافضين، إذ أن هذه ليست مجرّد معارضة مدنية، بل تمرّد داخل المؤسسة العسكرية، يمسّ “قدسية” الحرب لدى المجتمع الصهيوني.
واللافت أن القائد السلاح العسكري تومر بار رد بعنف على هذه المواقف، وهدّد بإبعاد الجنود الموقعين عن الخدمة، لكن الرسالة وصلت: الجيش نفسه لم يعد يؤمن بالجدوى، أو حتى بالأخلاق في ما يُرتكب من مجازر.
وقد تكون هذه أولى إشارات التفكك الداخلي التي يخشاها نتنياهو أكثر من صواريخ المقاومة.
العطش كأداة إبادة .. الجريمة التي لا تُغتفر
ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الكيان الصهيوني المياه كسلاح، لكنه اليوم يفعل ذلك بشكل ممنهج ومدروس، ويحوّل هذا الحق الإنساني إلى أداة إبادة.
ففي سياق هذه الجريمة، عطّلت قوات الاحتلال الصهيوني عمدًا خطيّ مياه “ميكروت” في شرق مدينة غزة والمحافظة الوسطى، واللذين كانا يوفران أكثر من 35 ألف متر مكعب من المياه يوميًا لأكثر من 700 ألف نسمة.
كما أوقف الاحتلال خط الكهرباء المغذي لمحطة تحلية دير البلح، ما أدى لتوقفها الكامل، مُعرّضا قرابة 800 ألف مواطن في محافظتي الوسطى وخان يونس للعطش الشديد.
و تؤكد التقارير الحكومية في غزة أن أكثر من 90% من شبكة المياه والصرف الصحي قد دُمّرت، في ظل منع الاحتلال الصهيوني للطواقم الفنية من الوصول إلى المناطق المتضررة، واستهدافهم أثناء تأدية مهامهم، مع استمرار قصف محطات وآبار المياه، ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيلها، وسط صمت دولي مريب.
نتائج هذه الجريمة باتت واضحة: أكثر من 1.7 مليون حالة مرضية مسجلة بسبب تلوث المياه، تتنوع بين الإسهال، الزُّحار، والتهاب الكبد الوبائي أ، إضافة إلى وفاة أكثر من 50 مواطنًا – أغلبهم أطفال – بسبب الجفاف وسوء التغذية.
ما يحدث في غزة يُعد جريمة حرب وجريمة إبادة جماعية وفقًا لميثاق روما الأساسي، وتقرير لجنة التحقيق الدولية، فضلًا عن كونه انتهاكا فاضحا لقرارات محكمة العدل الدولية التي دعت إلى ضمان وصول المياه والغذاء إلى المدنيين دون عوائق.
من قطاع غزة، يُوجّه المكتب الإعلامي الحكومي نداءً عاجلا إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للتحرك الفوري لوقف جريمة التعطيش، وفرض دخول الوقود والمعدات وفرق الإصلاح إلى المرافق الحيوية.
كما يطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف بحق قادة الاحتلال الصهيوني، وعلى رأسهم وزيرا الحرب الحالي والسابق، المتورطان بشكل مباشر في هذه الجريمة.
ويُدعى المجتمع الحقوقي إلى إعلان غزة منطقة منكوبة بيئيًا، والضغط لفتح المعابر وتأمين إمدادات المياه والصرف الصحي، مؤكدا أن هذه السياسات لن تنال من عزيمة الشعب الفلسطيني، بل ستزيد من عزلة الكيان الصهيوني، وتُخلّد جرائمه في ذاكرة العالم.
ويحمّل المكتب الإعلامي الحكومي الاحتلال الصهيوني، إلى جانب الإدارة الأمريكية والدول المتواطئة في الإبادة الجماعية كالمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، المسؤولية الكاملة عن حياة أكثر من 2.4 مليون إنسان في غزة، بينهم أكثر من مليون طفل.
الخبير في العلاقات الدولية و الاقتصاد السياسي، الدكتور محمد الطماوي لــ ” أخبار الوطن “
” حكومة نتنياهو تمر بواحدة من أصعب فتراتها منذ بدء العمليات العسكرية ضد غزة “
قال الدكتور محمد الطماوي، الخبير في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في تصريح لـ ” أخبار الوطن ” ، إن المنطقة تشهد تطورات متسارعة على وقع تجدد محادثات وقف إطلاق النار بين حركة حماس والكيان الصهيوني، وسط بيئة سياسية معقدة وظروف إنسانية كارثية في قطاع غزة.
وأوضح الطماوي أن زيارة وفد حماس إلى القاهرة مؤخرا، وتقديم الكيان الصهيوني عرضًا محسنا جديدًا، يعكسان محاولة جدية لكسر حالة الجمود السياسي المستمرة منذ شهور.
وأشار إلى أن حكومة بنيامين نتنياهو تمر بواحدة من أصعب فتراتها منذ بدء العمليات العسكرية ضد غزة، مؤكدًا أن الغضب الشعبي في الداخل الصهيوني يتصاعد بسبب استمرار الحرب وتزايد عدد القتلى والجرحى، إلى جانب التدهور الاقتصادي والأمني.
ولفت إلى أن استطلاعًا أجراه معهد الديمقراطية الصهيوني في مارس 2025 أظهر أن 68 في المائة من الصهاينة غير راضين عن أداء نتنياهو، فيما أبدى أكثر من نصفهم تأييدهم لوقف إطلاق النار وإنجاز صفقة تبادل أسرى.
وأضاف أن الكيان الصهيوني يواجه كذلك ضغوطا دولية متزايدة على خلفية اتهامات بارتكاب “جريمة التعطيش الممنهج” ضد سكان غزة، مستشهدا بتقارير صادرة عن هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وثّقت شح المياه وانهيار البنية التحتية.
وأكد أن هذا الوضع يزيد من عزلة الكيان دبلوماسيا، ويعزز الضغوط الأمريكية والأوروبية للدفع نحو حل تفاوضي.
وفي السياق الفلسطيني، كشف الطماوي عن تغيّر لافت في المشهد السياسي، موضحا أن حركة فتح قدمت مؤخرًا ورقة رسمية إلى القاهرة عبر قيادة اللجنة المركزية، تتضمن مبادرة للمصالحة مع حماس.
وبيّن أن المبادرة تدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة تمهيدًا لانتخابات عامة، وتوحيد المؤسسات الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير، ما يعزز موقف حماس التفاوضي ويوفر لها غطاءً سياسيًا يجعل الاتفاقات المستقبلية جزءًا من استراتيجية وطنية متكاملة.
ورأى أن عدة عوامل تتقاطع اليوم لدعم احتمال التوصل إلى اتفاق تهدئة طويل الأمد، من بينها ضغوط الداخل الصهيوني، لا سيما من عائلات الأسرى، إضافة إلى انفتاح حماس على تقديم تنازلات سياسية مدروسة، في ظل الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة وسعيها لتحقيق مكسب سياسي داخلي.
رغم ذلك، حذّر الطماوي من وجود تحديات حقيقية قد تعرقل نجاح المفاوضات، منها احتمال اعتراض بعض الفصائل مثل الجهاد الإسلامي، إذا شعرت بتهميش دورها، إضافة إلى معارضة أوساط اليمين المتطرف داخل حكومة نتنياهو لمبدأ التفاوض مع حماس، ما قد يؤدي إلى انهيار الحكومة أو إفشال التصويت على الاتفاق في الكنيست.
وأشاد الطماوي بالدور المصري، مشيرا إلى أن القاهرة أرسلت رسائل حازمة إلى المجتمع الدولي تحذّر فيها من أي مخططات ترمي إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا من غزة، مؤكدة أن هذه المحاولات تمثل خرقًا صارخًا للقانون الدولي وتفتح الباب لانفجار إقليمي.
ونوّه إلى أن التحركات الدبلوماسية المصرية، سواء عبر القنوات الثنائية أو الدولية، أثمرت عن استجابة واسعة من قوى كبرى كأمريكا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، الذين أعلنوا رفضهم الصريح لأي شكل من أشكال التهجير.
كما تحدث عن خطة مصرية لإعادة إعمار غزة، تعتمد على شركات كبرى بإشراف حكومي مباشر، مع تنسيق محكم مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة ودول مانحة، لضمان تدفق التمويل بعيدًا عن التجاذبات السياسية.
واعتبر الطماوي أن هذه الخطة ليست فقط استجابة إنسانية، بل مشروع استراتيجي لإعادة ربط غزة بالعمق العربي، وكسر العزلة المفروضة على القطاع.
وختم الطماوي تصريحه بالقول إن “فرص نجاح المفاوضات الحالية تبدو أفضل من أي وقت مضى، في ضوء حجم الضغوط على الكيان الصهيوني، والانفتاح النسبي للفصائل الفلسطينية، والدور النشط للدبلوماسية المصرية”.
غير أنه شدد على أن نجاح أي اتفاق مرهون بوجود آلية تنفيذ محكمة، وضمانات دولية شاملة، مع ضرورة إشراك جميع الأطراف الفلسطينية لضمان استدامة التهدئة. وأضاف: “إذا تكللت هذه الجهود بالنجاح، فقد نشهد بداية مسار سياسي جديد يفضي إلى تشكيل حكومة فلسطينية موحدة، وتأسيس واقع جديد في غزة والضفة الغربية معا “.
ندى عبروس