د.وليد بوعديلة
لم تكتب الأرض الفلسطينية قصائدها إلا بحبر الدم ووهجه، كما كتبته بمجد الشهادة و الجهاد، لتقول الصمود و العزة، و لتتحدث عن الحق في العودة، كما تكشف حبها وتفاعلها مع النضال الوطني الجزائري، فالقصة واحدة بينهما، كما أن المصير واحد، فيه ترقب الحرية و الاستقلال ، وفيه عودة الأرض لأهلها وخروج المغتصب الظالم.
نعترف أنه من الصعوبة أن نتحدث عن تجارب كثيرة من الشعر الفلسطيني، لاختلافها وتنوعها وكثرتها، لكن لابد من المغامرة ، لكي نجدد ذاكرة القارئ العربي ونربطه بمعاني المجد و البطولة، في ظل محاولات حروب الكترونية قوية، تريد أن تربطه بالتفاهة و اللهو والقيم السلبية.
لذلك حديث القلم اليوم عن الشعر الفلسطيني المقاوم، في اللغة العربية الفصحي وفي اللهجة الشعبية الفلسطينية، فماذا قالت القصائد؟ وما ملامح حضور الأرض و الإنسان والعزة و النضال؟
- من وهج الشعر النضالي :
نجد في الشعر الفلسطيني ذلك الارتباط الروحي الكبير بالأرض وكل مكوناتها، حتى أننا يمكن أن نبحث في علامات متعددة و رمزيات راقية للتفاعل بين الانسان و الأرض في هذا الشعر، فها هي الشاعرة الشاعرة فدوى طوقان في قصيدة كفاني تستدعي أساطير الخصب والبعث لتقل حبها للأرض:
كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
و أُبعث زهرةً
تعبث بها كفُ طفل نمته بلادي
كفاني أطل بحضن بلادي
ترابا وعشبا وزهرة “.
و من شعراء فلسطين الشاعر أحمد القدومي، وقد أنجز حوله الباحث الجامعي الجزائري بلال كروز أطروحة دكتوراه جيدة بجامعة سكيكدة، بإشراف الدكتور عبد السلام جغدير، حول” التشكيل الشعري في رباعيات أحمد القدومي دراسة أسلوبية”، وبفضل هده الأطروحة تعرفنا على الشاعر وجماليات شعره، واكتشفنا وهج المقاومة عنده، يقول الشاعر أحمد القدومي محاورا معاني التحدي والبطولة، وعدم الخوف من المحتل الغاصب:
” يا نار كوني ألف نار
واحرقي دنس اليهود
يا نار كوني جمرة
بقلوب أحفاد القرود
يا نار لا تذري من التلمود
حرفا في الوجود
فالريح تجأر والفوارس
تشتهي خفق البنود.”
كما تتحدث قصائد أحمد القدومي عن وحدة الصف الفلسطيني وأهمية الوحدة الوطنية في المواجهة والنضال، وهذا ما علمتنا الثورة الجزائرية المباركة، يقول الشاعر:
” فتح أنا، أنا ثورة، انا جبهة، أنا عاصفة
وقيادة أنا، من حماس، من سيول جارفه
هذا أنا العربي لن تبقى جراحي نازفة
فمواكب الثوار عادت والكتائب زاحفة.”
ولم تغب دلالات الأمل في العودة، ومعها دلالات إخراج اليهود المحتلين، عبر طريق طويل من النضال والشهادة،يقول احمد القدومي مستبشرا زمن النصر والحرية:
يا قدس عذرا إن ترجل فارس منا وغاب
وغدوت في أسر الأعادي يستبد بك العذاب
فلسوف تصحو أمة ولسوف يلتهب التراب
وموضوع التعلق بالوطن حاضر في كل الشعر الفلسطيني، وهو متواصل الى اليوم، في ظل الحرب على غزة وعمليات التهجير والتجويع ،يقول محمود درويش في قصيدة وطن:
علقوني على جدائل نخلة
واشنقوني فلن أخون النخلة
هذه الأرض لي وكنت قديما
أحلب النوق راضيا وموله
…
وطني غضبة الغريب على الحزن
وطفل يريد عيدا وقُبلة ”
كما نجد معاني حضور جلال المقاومة و الجهاد، وامتدادها الديني و الحضاري، فلم يتأخر الشاعر الفلسطيني في كتابة يوميات المقاومة و التاريخ الفني الإبداعي للبطولات و الانتصارات، يقول سميح القاسم في قصيدة “يا عدو الشمس”، وهي قصيدة قديمة، لكن وكأنها مكتوبة اليوم لأهنا في غزة العزة:
” ربما أفقد ما شئت معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجارا و عثالا وكناس شوارع
ربما ابحث في روث الماشي عن حبوب
ربما أخمد عريانا وجائع
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
و إلى آخر نبض في عروقي سأقاوم “.
وعلى نفس إيقاع الصمود في الأرض ومواجهة الوجع والألم والتهجير، وفي ظل الصمت العربي الاسلامي، نقرأ هذا النموذج لتوفيق زياد في قصيدة هنا باقون:
هنا على صدوركم باقون كالجدار
نجوع، نعرى،نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال جيلا ثائرا وراء جيل
في اللد و الرمله والجليل
إنا هنا باقون
فلتشربوا البحر”.
ولا يمكن أن ننسى القصيدة الخالدة للشاعر سميح القاسم، وقد لحنها وغناها الفنان مارسيل خليفة، نقرأ منها:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي..وأنا امشي
قلبي قمر أحمر..قلبي بستان
فيه فيه العوسج.. فيه الريحان
شفتاي سماء تمطر
نارا حينا ..حبا أحيان”
2- عز الدين المناصرة..جلال المقاومة:
ويعتبر الشاعر الدكتور عز الدين المناصرة من ابرز الشعراء المعاصرين في فلسطين، وقد عاش الغربة و المنفى، قبل أن يستقر بالأردن مدرسا بجامعة فيلادلفيا، أنجزنا حوله كتابا وسمناه ب” شعرية الكنعنة، تجليات الأسطورة في شعر عز الدين المناصرة”.(دار مجدلاوي، الأردن 2009)، وهو شاعر معروف بالتفاعل مع الأساطير والتراث الشعبي، والاستعانة بهما في الدفاع عن الحق الفلسطيني في الأرض، بخاصة مع محاولات متكررة من العدو الصهيوني لسرقة مكونات الثقافة الشعبية الفلسطينية…
و كتب الشاعر قصيدة “الرد على الأحبة”، وهي مطولة تتكون من مقاطع، يقول في مقطع شاميات”:
“عند باب القدس ماتت جدتي
وهي تحكي لشجيرات العنب
عن زمان سوف يأتي
وعلى خده شامات الغضب”.
فالمقطع يفيض بمعاني الثورة و المقاومة، وتحضر الجدة لتقول الحكمة الشعبية وقداسة التراث وعمق الإييمان بالقضية الفلسطينية، وعبر الجدة تتواصل قيم الفداء و التضحية، لتستقر عند الأطفال والشباب، والجيل القادم غضبا وحماسة وحبا وطنيا.
ويقول المناصرة في قصيدة “أرى”:
يا سيدي إني أرى ما لا يرى
وأشم رائحة
أرى سما شهيا قدموه لقتلنا
هو في طعامك،
و أرى الخليل حبيبتي نهبا لتجار الممالك
وأشم رائحة
فحاذر إنهم حرباء تظهر في الفصول
أخشى إذا طلع النهار
تصير بيروتُ الخليل”.
ومن أبرز وأجمل قصائد قصيدة “لا أثق بطائر الوقواق”، حيث شبه المحتل الغاصب الذي يسر ق الأرض ويهجر أهلها بطائر الوقواق الذي يسرق أعشاش غيره من الطيور، يقول الشاعر المناصرة:
طائر الوقواق يحتل ترابا من ذهب
طائر الوقواق يحتل السماء
طائر الوقواق يحتل الهوية
طائر الوقواق لص في النهار”.
هذه نماذج مختصرة جدا من شعر عز الدين المناصرة،ومن دواوينه نذكر: يا عنب الخليل، قمر جرش كان حزينا، رعويات كنعانية، بالأخضر كفناه، حيزية عاشقة من رذاذ الواحات، لا اثق بطائر الوقواق، جفرا…
و المناصرة هو الشاعر والمناضل الذي قاوم بالرشاش وبالشعر، وكان صوته رحمه الله صوتا فلسطينيا ثقافيا و إبداعيا يتحدى كل خطط حكومات الكيان المحتل، ويمكن للقارئ العربي أن يكتشف مع المناصرة تعلقا بذاكرة الكنعانيين وحبا لمجد الأمكنة و العناصر التراثية، وهذا مجال ثقافي هام في استراتيجية المقاومة الثقافية/ الروحية لخطط الاحتلال الصهيوني ومحاولته سرقة وتشويه ثقافة الفلسطينيين وتاريخهم.
2-الشعر الشعبي والنضال:
لم يتخلف الشاعر الشعبي عن كتابة معاني المقاومة، وتحولت الكثير من القصائد إلى أغان و أناشيد عابرة للقارات، و اشتهرت وانتشرت واحتضنها الشارع العربي في كل الدول، ورددتها الأجيال، وهي تعبر عن موضوعات كثيرة منها: العودة و الحنين ،الوجع و السجون،الغربة و المنافي، شجرة الزيتون ،مفتاح المنزل القديم، الشهادة و الشهيد..
يقول شاكر فريد حسن في مقال الشعر الشعبي الفلسطيني في المواجهة:” شكل هذا الشعر احد أشكال التعبئة والنضال والمقاومة ضد ممارسات الاحتلال، والظلم والقهر والواقع الجاثم على صدر الشعب الفلسطيني، المتمثل بالعقاب الجماعي والاعتقال التعسفي.”
وفي مقامنا هذا، من الصعوبة أن نقدم كل التجارب والنصوص والأغاني ،أو نحيط بها، لكن سنقدم بعض النصوص التي تقول عمق الارتباط بالأرض، وتقول يوميات النضال والجهاد، وفضح حياة السجون و المعتقلات.
من الزجل الشعبي نقرأ نوذجا يؤكد فكرة عدم التنازل عن الأرض، وكيف أن حب الوطن يجري في العروق و القلب، والروح الفلسطينية هي روح عشق الوطن والمقاومة والمجد:
وقولوا لأمي بأنا للوطن راجعين
نكتب تاريخ العروبة بالشرف والدين
بالدم مفدي الوطن كبارنا وصغار
…
هذا وطنا الجميل و هاي ديرتنا
فيها الرجولة وحب الكرم عادتنا
وشهداء أهل الوطن يا الربع إخوتنا
بصدورهم قابلوا رصاص العِدا و النار.”
ومن النماذج نذكر قصيدة وجدت مكتوبة على جدران سجن عكا، يرثي فيها مناضل نفسه قبل شنقه سنة 1936، يقول الشاعر الشهيد:
يا ليلْ خلِ الأسير تَ يكمل نواحو
رايحْ يفيقْ الفجر ويرفرفْ جناحو
ت يتمرجح المشنوقْ في هَبة رياحو
…
ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجالْ
تخسا الملوك إن كانوا هيك أنذالْ
والله تيجانهم ما يصلحوا لنا نعالْ
إحنا اللي نحمي الوطن ونضمد جرحوا.”
ومن القصائد الشعبية الفلسطينية المعروفة نذكر:قصيدة من سجن عكا طلعت جنازة، قصيدة يا ظريف الطول، قصيدة طلت البارود و السبع ما طال، قصيدة يا يمة فيه دقة ع بابنا، قصيدة يا طالعين الجبل…
و أغنية “يا يمة ” تتحدث عن البطل بلال الذي هجر من بيت لحم نحو لبنان، وكان يناضل ويقاوم المحتل في عمليات ومعارك كثيرة،وظن أهله انه قد مات، وفي مرة من المرات وجد نفسه قريبا من قريته ومنزله فاراد زيارة الأم، لكنها لم تفتح له الباب ،ولم تصدقه، إلى أن استعان بالجيران الذين أقنعوها بعودته وبأنه حي. نقرأ منها:
يا يمة فيه دقة ع بابنا
يا يمة هادي دقة أحبابنا
يا يمة هادي دقة قوية
يا يمة عشاق الحرية”
وهناك أغنية يا “ظريف الطول”، وتنطق “يا زريف الطول” باللهجة الفلسطينية، تتحدث عن شاب فلسطيني ثأر لقريته التي كانت تتعرض لعدوان وبطش لعصابات الصهاينة، فاشترى السلاح ووزعه على أبناء القرية، وقاد معركة كبرى لطرد العصابات، لكنه اختفى ولم يعد وغابت أخباره. يقول مطلع القصيدة:
” يا ظريف الطول وقف تا قولك
رايح ع الغربة وبلادك أحسنلك
خايف يا ظريف تروح وتتملك
وتعاشر الغير وتنساني أنا”.
هذه نماذج قليلة فقط، ويمكن البحث في الشعر الشعبي الفلسطيني، وسيجد القارئ كثيرا من الأمجاد و البطولات وعلامات بقاء المقاومة واستمرارهاـ ترقبا لأمل العودة و النصر.
في الختام..
كتب الشاعر الفلسطيني موضوعات وطنية عديدة، فيها وصف لمعاناة اللاجئين والمهجرين، وفيها جراح المنافي والغربة، مع الأمل في العودة، كما أن الشعر تحدث عن الحنين إلى الماضي، وفضح ممارسات الاجرام الصهيوني،ونشر للعالم يوميات السجون و المعتقلات، وفيه معاني ترقب الحرية والاستقلال، وكذلك مواقف الذل و العار العربية…
أخيرا…اختار أن اختم حديث القلم بنص للشاعر سميح القاسم، وهو رسالة لجنود الاحتلال الصهيوني:
تقدموا تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
و كل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ ولا نستسلم
و تسقط الأم على أبنائها القتلى
ولا نستسلم
تقدموا تقدموا
بناقلات جندكم وراجمات حقدكم
وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا
لن تكسروا أعماقنا
لن تهزموا أشواقنا.”
أوقف حديث القلم اليوم….وإلى حديث قادم إن شاء الله.