أتلقّى بعض الدّعوات سنويّا من بعض المعارض العربيّة للكتاب. ويحدث أن أعتذر عن حضور بعضها، إذا كنت مشغولا أو ذا مزاج سيّء أو راغبا في البقاء مع بناتي، اللّواتي لا يساندن أسفاري، لكنّني لا أفكّر في الاعتذار عن حضور معرض الشّارقة الدّوليّ للكتاب، فقد ربطت معه صلة قرابة منذ حضرت فعالياته أوّل مرّة عام 2012.
ثمّة أماكن ومهرجانات تمارس عليك سطوة وجدانيّة، فتصير زيارتها في الحقيقة زيارة لنفسك بالدّرجة الأولى. ويصبح المبرّر الأقوى للوفاء لها هو هذا اللّقاء مع الذّات. فهل انتبه منظمو معارض الكتاب في الفضاء العربيّ إلى ضرورة توفير المناخات التي تجعل الكتّاب والقرّاء يزورونها من باب الاستمتاع بأنفسهم؟ ذلك أنّ معرض الكتاب ليس فضاء تجاريّا فقط، بل هو أيضا حمّام روحيّ وفكريّ تغسل فيه الذّوات دواخلها مثلما تغسل أجسادها في حمّامات الماء.
يكفي أن تقف ربع ساعة في أيّ زاوية من زوايا معرض الشّارقة الدّوليّ للكتاب الذّي يصنّف الثالث عالميّا، شريطة أن تكون مالكا لعين لاقطة، لتدرك أن ثمّة عقولا مفكّرة تقف وراء الكمّ الهائل من الجماليات والمبادرات التّي تؤثّثه. فأنت سوف لن تكون فقط أمام فرصة اقتناء أيّ كتاب تريد، بأيّ لغة من لغات الدّنيا، وأمام فرصة لقاء كتّاب ومفكّرين وفنّانين من القارّات الخمس، بما فيهم المتوّجون بجوائز عالمية وازنة، فقد تمّت مثلا برمجة ندوة خلال الدّورة الجارية تجمع بين فائزين بجائزة نوبل وجائزة البوكر العربية، بل أيضا أمام فرصة أن تسمع موسيقى وتشاهد مسرحا وتحضر ورشات تكوينيّة تساعدك على أن تعيش الحياة بصفتها فنّا.
إذا كانت ثمّة عبارة يمكن اختزال معرض الشّارقة فيها، فهي عبارة “فنّ العيش”. حيث تكون الإجابة على مثل هذه الأسئلة: لماذا أقرأ أو أكتب أو أسمع أو أشاهد؟ هي: “لأعيش حياتي وفق منطق الجمال والتّسامح والاستمتاع بالتّواصل مع الآخر المختلف عنّي”. ويمكننا أن نلمس هذه الفلسفة باستعراض الشّعارات التّي حملها المعرض خلال دوراته الخمس والثّلاثين، منها شعار هذه السّنة: افتح كتابا تفتح أذهانا.
ما أجمل أن يجد الإنسان نفسه داخل فضاء يمارس فيه فعل الانفتاح بمفهومه الإنسانيّ والثّقافيّ والحضاريّ الحقيقيّ، من غير أن يفقد ملامح هوّيته المحلّية، في ظلّ عالم بات مبرمجا على الانغلاقات المختلفة، رغم أنّه بات مسيّرا من طرف مواقع توصف بكونها للتّواصل الاجتماعيّ والثقافيّ! بكلّ ما نتج عن تلك الانغلاقات من إقصاء ورفض للآخر المختلف.
وما ينعش النّفس والذّهن أكثر أنّ هذا الفضاء ليس موجودا في أمريكا أو أوروبّا أو أستراليا، فقد رسخ في أذهاننا ووجداننا أنّ كلّ فضاء مبرمج على الانفتاح إنّما هو موجود في هذه الدّول، بل هو فضاء موجود في بقعة عربيّة مسلمة، بما يعزّز لديك الإحساس بالفخر والاعتزاز، والإيمان بإمكانية أن يثمر نضالك الثقافيّ من أجل بيئة حضاريّة في دولتك ثمارا جميلة. وينسف كثيرا من الأحكام المسبقة التّي يحملها الغربيّون عنك بصفتك عربيّا ومسلما، بسبب الصورة السوداء التي كرّستها الجماعات السّوداء. وتكفيك خمس دقائق فقط هذه المرّة لتدرك ألّا مجال للارتجال مهما كان صغيرا في تنظيم معرض الشّارقة الدّوليّ للكتاب. فكلّ تفصيل في مكانه. وكل خدمة يقتضيها معرض دوليّ متوفّرة. وكلّ رغبة ثقافيّة لأيّ زائر مواطنا كان أم مقيما أم زائرا لا تجد في طريق تحقّقها أيّ عائق يذكر، ذلك أنّ ثمّة تكاملا واضحا بين المنظومات من أجل حصول ذلك.