الـحــلــقة الثّالثة:
يستكمل الحارس الشخصي لـ محمد بلونيس حمود قرطال، صاحب 84 سنة، سردَ تفاصيل قصته مع بلونيس، الذي سيطر على مناطق تمتد شمالا من صور الغزلان وإلى الأغواط جنوبا، وشرقا إلى وادي جدي جنوبي بسكرة، وغربا إلى قصر الشلالة وقصر البخاري وعين بوسيف؛ وهي المساحة التي تعادل ثلاث مرات مساحة هولندا، حيث بلغ عدد جنده نحو عن 7000 جندي. كما يكشف الراوي عن السّر الحقيقي الذي جعل محمد بلونيس يبرم اتفاقا مع الجيش الفرنسي الذي تعهد بتسليحه بعد مأساة ملوزة التي كان حمود قرطال شاهدا عليها، مؤكدا أن بلونيس قد أبلغ جميع الكتائب بمبررات الاتفاق واستشار القادة الميدانين بجدوى الاتفاق، قائلا لهم “إذا قلت لكم ادخلوا “لكازيرنات” فرنسا حينها أقتلونني”، لتبقى – حسبه – عورة هذا الاتفاق أنه تم دون علم او استشارة قائد الحركة الوطنية مصالي الحاج الذي لم أنكر هذا الاتفاق وتملص من تزكية بلونيس الذي كان يقود جيش الحركة الوطنية. هذه الشؤون وتلك الشجون تجدونها في الحلقة الثالثة من هذه الشهادة الحصريّة التي خص بها “أخبار الوطن”.
ــــــــــــــــــــ فـاروق مـعـزوزي ــــــــــــــــ
المساحة التي سيطر عليها بلونيس تعادل مساحة هولندا ثلاث مرات.
جيش محمد بلونيس كان قِوامه 7000 عنصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما هي الأسباب التي جعلت محمد بلونيس يصطدم مع كريم بلقاسم قائد جيش التحرير في منطقة القبائل؟
السبب يعود لعملية العصفور الأزرق، فنحن أبناء الحركة الوطنية نؤمن بأنها عملية استخبارتية مرتبة سلفا، بعد أن تم الاتفاق بين جبهة التحرير الوطني والجيش الفرنسي بهدف طرد محمد بلونيس من منطقة القبائل، لدرجة أن عمران قال لهم “حبسوا علينا هذه المسخرة قبل ما يفيق الشعب بنا، ولن يثق فينا بعدها”.
أين اتجه محمد بلونيس بعد هذا الاحتكاك المسلّح؟
انسحب من معارك فرضت عليه وهي غير متكافئة ؛ لأن الجبهة كانت جد قوية في منطقة القبائل ومسلحة جيدا. وقد اتجه بلونيس إلى منطقة سور الغزلان وسيدي عيسى والمسيلة وبوسعادة وأولاد جلال وسيدي خالد، حتى وصل امتداده إلى وادي الجدي (جنوبي بسكرة)، ناهيك عن الأغواط والجلفة صعودا إلى قصر الشلالة وقصر البخاري وعين بوسيف، وهذه المساحة تعدل مساحة هولندا ثلاث مرات.
ثمّة من يتهم محمد بلونيس بأنه استغل سذاجة وطيبة سكان الجنوب؟
كلا، هذه المناطق هي في الأصل مصالية إلى النخاع، وقد وجدها بلونيس جاهزة كونها معاقل آمنة للحركة الوطنية، وقد قام بتأطيرها عسكريا عندما جندها وجعلها على رؤس الجبال، من جبل بوكحل وجبل مسعدو جبل لقصاع وجبل لبن وجبل كراع وجبل ثامر وجبل قعيقع وغيرها، وقد بلغ قوام جيشه 7000 عنصر.
كيف اتفق بلونيس مع الجيش الفرنسي، ووضع يده في يد العدو وهو الذي كان يحرض الناس على محاربة الاستعمار؟
وقعت مجزرتين، الأولى في وادي اميزور عندما قُتل مدنيون على يد الجبهة، والثانية المجزرة الشنيعة والفظيعة التي نفذتها الجبهة في حق سكان ملوزة في 29 ماي 1957، تحت أوامر العقيد سي ناصر (محمد سعيدي).
ثمّة من يتهم سكان ملوزة بأنهم ساندوا بلونيس، وقد نبهتهم الجبهة ولم يتعضوا؟
كلا، الحقيقة هي أن دوار ملوزة ذو موقع استراتيجي، وكانت هذه القرية المتواضعة وفية للخط المصالي، وقد كانت تعد عقبة أما جبهة التحرير في تنقل جيشها من القبائل إلى سطيف ومن سطيف إلى الجنوب، وكانت ملوزة تعد حلقة وصل بين ثلاث ولايات هي كبد الجزائر، الولاية الرابعة والسادسة والثالثة، فالذي يسيطر عليها يكون قد أمسك بشريان جغرافي ومعبر مهم.
فيما تمثّل رد فعل محمد بلونيس عن مأساة دوار ملوزة ببني يلمان؟
بلغنا النبأ الصادم عبر مناضلينا، وكنا وقتها رفقة القائد محمد بلونيس في براردة، وقد قرر على الفور التنقل لمسرح الجريمة. انتظرنا حتى الخامسة مساء وانطلقنا على الخيل والبغال. في الرابعة صباحا كنا قطعنا حوالي 70 كلم، حتى وصلنا لمكان الجريمة، وقد وجدنا الجثث لتزال منشورة ولم تدفن بعد، كنت شاهدا على مجزرة لا يمكن وصفها إلا بالإبادة الجماعية.
كيف تصرف محمد بلونيس عندما وصلتم إلى مسرح الجريمة؟
عاين المجزرة وصدم من هول الإبادة وبقينا مذهولين ومندهشين، وبعد معاينة تفاصيل الجريمة، وقبل أن يزحف الجيش الفرنسي إلى المكان انسحب من مكان الجريمة في حدود السابعة صباحا، واتخذنا مكانا يبعد حوالي 5 كلم عن المنطقة، وبقينا نعاين دوار ملوزة ومساعدة ما تبقى من أهلها في تجاوز الفاجعة لمدة ثلاث أيام، ثم عدنا من حيث جئنا.
هل أفهم منكم أن ما تعرض له سكان دوار ملوزة كان منعطفا حساما في قناعات بلونيس؟
أغلب الظن أن المجزرة هي من دفعت محمد بلونيس ليبرم اتفاقا مع الحكومة الفرنسية.
مقاطعا..وهل يُعقل أن يضع يده في يد الشيطان ضد أبناء جلدته ولو كان مبرره مجزرة ملوزة؟
ضلت الجبهة تحارب فيه من منطقة القبائل إلى جبل حيزر فالصحراء، وعندما وصل “الموس للعظم” بارتكاب مجزرة ملوزة تغير الرجل، وعكس ما قامت به الجبهة من اتفاق سري تحت الطاولة مع الجيش الفرنسي من خلال الاتفاق على عملية العصفور الأزرق التي سلحت من خلالها فرنسا جبهة وجيش التحرير سريا، أبرم محمد بلونيس اتفاقياته مع الجيش الفرنسي جهارا نهارا، ولم يخفها وقد فرض شروطه بعد مفاوضات شاقة.
ماهي شروطه، وفيما تمثّلت شروطهم؟
جاءت شروط محمد بلونيس كالتالي: أولها الاعتراف بالجيش الوطني للشعب الجزائري، وثانيها أن أي مفاوضات حول استقلال الجزائر تكون مع قائد الحركة الوطنية مصالي الحاج. أما شروط الحكومة الفرنسية على بلونيس، فتمثلت في الدخول في الهدنة، وعدم مغادرة المناطق التي حددت له (الواقعة تحت سيطرته)، وأن لا يدخل جيش بلونيس المدن، وأن لا يأخذ الاشتراكات من المدنيين.
مقاطعا..من هندس الاتصال بين الجيش الفرنسي ومحمد بلونيس؟
كان الاتصال عبر مدير مدرسة عين الحجل، الذي بادر محمد بلونيس بالاتصال به، وعلى إثره جاء ممثل الجيش الفرنسي الذي قدم على سيارة جيب مكشوفة إلى منطقة البراردة في شهر جوان 1957، وقد ذهب إليه بلونيس وحده فيما بقينا نحن أفراد الحماية المكونة من عشرين نفرا مختبئين قريبا منهم، تحسبا لأي طارئ. ودار النقاش بينهم دون أن نعلم تفاصيله، حتى علمنا بالاتفاق في شهر سبتمبر من السنة نفسها.
كيف كان رد فعل جيش محمد بلونيس بعد علمه بالاتفاق المبرم مع الجيش الفرنسي؟
قبل عقده الاتفاق، كان بلونيس قد تنقل ميدانيا،عندما قام بجولة للكتائب جيش الحركة الوطنية، كما أستدعى بعض القادة الذين يثق فيهم، واستشارهم حول عزمه إبرام اتفاقيات مع الحكومة الفرنسية. وبعد نقاش طويل معهم، ختم كلامه – عندما لمس تردد الكثير منهم – بقوله: “إذا طلبت منكم يوما الدخول “لكازيرنات”الجيش الفرنسي وقتها يحق لكم قتلي”، مردفا: “والأسلحة التي سيمنحوني إياها سأحاربهم بها”.
مقاطعا..لكن محمد بلونيس لم يستشر قائد الحركة الوطنية الذي لم يفوضه لإبرام اتفاق مع الجيش الفرنسي، ولم يزكّه بل تبرأ منه؟
فعلا، بلونيس لم يستشر مصالي،وهذا الأخير لم يطلب منه إبرام اتفاق مع فرنسا، بل أكثر من هذا قد أنكر هذا الاتفاق عليه وتبرأ منه.
ماهو ردّ فعل بلونيس من موقف مصالي الذي قطع صلته به بعد إبرام الاتفاق؟
كان رد محمد بلونيس أن وجه خطابا مكتوبا لمصالي الحاج، يؤكد له فيه أن مصداقيته (مصالي) ستظل محفوظة، وأن شخصيته ستبقى مصونة، ودوره سيكون مضمونا في الجزائر الجديدة.
مقاطعا..كيف كان ردّ مصالي بعد مراسلة بلونيس؟
كانت الاتصالات صعبة بين طرفين، لكن مصالي ترك الأمر بين البينين؛ فإن خسر بلونيس فيتحمل المسؤولية لوحده، وإن كسب الرهان فسيكون في صالح مصالي الحاج.