ظلَّ المرجع الجّامع للجزائريين ولمؤسس الدّولة
نوفمبر… اليقينُ بالعودة إلى الشرعية
تحتفل الجزائر الشعبية والرسمية غدا بأكبر مَلحمة في تاريخ الأمة الجزائرية، في ظل حَراك سياسي وإيديولوجي، تبحث من خلاله الأمة الجزائرية عن اليقين؛ يقينٌ بمستقبل لا يقبل إلا أن يكون ضمن قِيَم الحُريّة والكرامة والسّيادة.
لم يسبق أن التقت الأمة الجزائرية كما التقت في الفاتح من نوفمبر عام 1954، حيث سجلت كفاحها من أجل الحرية والكرامة والاستقلال والسيادة بأنهار من الدماء، ورفعت سجلها بذلك الى سماء المجد والخلود وحفرت نضالها في اصقاع الأرض كيف لا؟ ونوفمبر جلَّ جلاله فينا وهو وحده من بثّ فينا اليقين، كما قال الشاعر العظيم مفدي زكرياء.
ولأن اليقين وحده من يبدد الشّكوك، ويضع حدا للغموض، يعتزم الجزائريون جعل الفاتح من نوفمبر 2019 بداية لمرحلة جديدة؛ مسار جديد يتوَّج في نهاية المطاف بتحقيق جزائر جديدة، أرضيتها مشروع الشهداء الذي لم يكتمل بعد!
صحيحٌ أن النّقاش حول المشاريع السياسية غالبا ما يتميز بالاختلاف في الرؤى، وصحيح أيضا أن أيّ مشروع مجتمع يتطلب نقاشا مستفيضا قد لا يحظى بالإجماع كما هو الشأن اليوم، إذ انقسم الجزائريون على أنفسهم في كيفية بناء الجزائر الجديدة؛ جزائر الحق والقانون، جزائر العدالة والحريّة والديمقراطية؛ فبين من يرى أن هذا المشروع يمرّ عبر إعادة التأسيس أو – على الأقل – مرحلة انتقالية يتنحى فيها كل رموز النظام السابق قصد إحداث قطيعة مع كل الممارسات التي توصف بالفاسدة، وبين جزائريين آخرين يرون أن الطريق الأقل ضررا والأكثر أمنا تمر حتما عبر صندوق الانتخابات، الذي سيفرز شرعية سياسية بإمكانها التعاطي مع ما يجب أن تكون عليه الجزائر الجديدة…
إذن، نحن أمام معادلة سياسية طَرَفاها يؤولان نحو والتنافر: اتفاق على طبيعة الازمة وضرورة بناء جزائر جديدة ، واختلاف على آليات الحل وأدوات البناء. في مثل هذا الوضع، وضمن هذه السياقات، يمكن فهم محاولة احتماء كل طرف من أطراف اللعبة السياسية بذكرى الفاتح من نوفمبر، والتأكيد على المرجعية الجامعة والمؤسِّسة للدولة الجزائرية والموحدة للأمة ، فالدعوات إلى التجنّد والخروج بقوة في الفاتح من نوفمبر الذي يصادف يوم الجمعة المقبل، ومحاولة إعطاء زخم للحراك الشعبي الذي فقد وهجه بعد تسعة أشهر لأسباب متعددة ومتداخلة، رسالة ضمنية توحي بأن الحراكيين يبحثون عن نقطة التقاء ولكن أيضا التمسك بعدم خروجهم عن الشرعية النوفمبرية التي تتمسك بها السلطة كنهج سياسي ومرجعية إيديولوجية لتفسير ما يحدث وما يجب أن يكون.
في الجهة المقابلة، أو بالأحرى الجهة الرسمية، تتمسك السلطة ويؤيدها قطاع من الجزائريين بأن النهج النوفمبري وحده من رسخ قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والخيار الاجتماعي، وهو ما يعني أن هذه القيم لا يمكن احتكارها من قِبل أيا كان. بين ثنايا هذا الصراع السياسي بخلفياته الإيديولوجية، يطل علينا نوفمبر ليذكرنا بأنه لا نجاح إلا بالإجماع ولا إجماع إلا حول الجزائر. ومن هنا، فتشبت كل طرف بنوفمبر مؤشر على قدرة الجزائريين على تجديد العهد مع نوفمبر، لتجاوز محنة الانشقاق ورسم خارطة طريق مرحلية لتجاوز الأزمة الهيكلية التي تعصف بالبلد، خاصة في شقّها المتعلق بالشرعية.
ظلّ حبيسَ أدراج المسؤولين
تصريحاتٌ “مناسباتية” نَسفت تجريمَ الاستعمار
يعود الجدل عشية الاحتفال بالذكرى الـ 65 لاندلاع الثورة التحريرية، وتسبقه تصريحات ” مناسباتية” لوزير المجاهدين يدعو فيها الجانب الفرنسي إلى الاعتراف بجرائمه. في حين، يبقى مشروع قانون التجريم مجمدا وغير مفعَّلٍ، لأجل غير معلوم.
جدّد وزير المجاهدين، الطيب زيتوني، تصريحاته الموجهة للجانب الفرنسي من أجل تسوية ملف الذاكرة، واعتراف فرنسا بجرائمها، مشيرا إلى أنه لا توجد إرادة صادقة لدى فرنسا لتسوية ملف الذاكرة. مؤكدا في السياق ذاته أنه سيتم ربط العلاقات الجزائرية الفرنسية في هذه المفاوضات، والضغط بكل الوسائل الموجودة.
من جهة أخرى، وصف رابح لونيسي أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة وهران، في اتصال له مع ” أخبار الوطن”، تجدّد التصريحات حول الجرائم الاستعمارية بأنه مجرد سجل تجاري يتاجر به المسؤولون، خاصة وأن المعطيات تؤكد ذلك؛ فمنذ إقرار فرنسا قانون تمجيد الاستعمار سنة 2005 في عهد “جاك شيراك” لم يكن للجانب الجزائري أي ردة فعل تذكر. كما أشار إلى أن تحديد الخطاب في إطار دولتين وديبلوماسيا هو خطأ، حيث كان من المفروض أن يتحرك مسؤولونا في إطار هيئة الأمم المتحدة لإصدار قرار أممي يجرّم الجرائم الاستعمارية في الجزائر، مثلما أُصدر قرار أممي يقضي بتجريم العنصرية والهلوكوست.
وتابع لونيسي يقول: “يعودون سياسيونا ومؤرخونا للحديث بقوة عن جرائم الاستعمار كلما حلت علينا ذكرى تاريخية، وهذا خطأ – على حد قوله؛ لأنه لا يمكن حصر الجرائم أيا كانت في أيام محددة، فالاستعمار ذاته جريمة. كما لا تنحصر هذه الجرائم فقط في مجال الإنسان كتصفيته وتعذيبه واعتقاله، بل تمتد إلى مجالات شتى كالثقافة والاقتصاد وغيرها؛ فمثلا فرنسا الإستعمارية جعلت الجزائر مزرعة للكروم تزود مصانعها المنتجة للخمور بعد تحطيمها زراعتنا والمحاصيل الغذائية التي كنا ننتجها آنذاك. وبعد اكتشاف البترول في 1956، حول هذا الاستعمار بلدنا إلى مصدر للمحروقات.
“على السّلطة قراءة الحَراك جديّا قبل اتخاذ أيّ خطوة”
أما الإعلامي والمؤرخ محمد عباس، فقد أوضح لــ”أخبار الوطن” أن ما يحدث في الجزائر منذ 22 فيفري المنصرم هو ثورة شعب، والحَراك أكد أنها ثورة شعب مستمدة من مبادئ بيان أول نوفمبر، التي تنصّ على بناء دولة عصرية ذات طابع جمهوري، لا ملكية ولا إقطاعية، والحراك هو فرصة سانحة لتصحيح المسار والأمور بعد الانحراف الخطير الذي شهدته الجزائر، والذي أنتج الجوع والبؤس والتشرد والضياع”.
و شدّد عباس على أن ” الحراك يحتاج إلى تنظيم ليصبح ثورة كاملة الأركان، لأن نجاح أي ثورة مرتبط بذلك ولنا في ثورة التحرير أكبر مثال ودليل. فدون التنظيم لا يمكن للحراك أن يذهب بعيدًا”. ودعا عباس الحراكيين إلى التجنّد للحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.
و أشار محدثتا إلى أن الحراك يتطلب تنظيما وقيادة تعمل على رصّ الصفوف والتقريب بين وجهات النظر وإذابة الخلافات لإنجاحه، كما صرّح بأن الجزائري معروفا بقوته ونَفَسه الطّويلين وأنه لا يتعب”. الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة صرح في سنة 1957- أي بعد عام من استقلال بلاده- ناصحًا الفرنسيين بأن الجزائريين لا يتعبون”، مضيفا بالقول: “ولهذا، أنا على يقين بأن الحراكيين لن يتسلل التعب والإرهاق واليأس إليهم”. وفي الأخير، نصح عباس السلطة بضرورة قراءة الحراك قراءة جدية قبل اتخاذ أيّ قرار دون إشراك الحراكيين.
بوزيد بومدين: الحراك ليس علمانيةً متطرفة أو باديسيةً نوفمبرية
واعتبر الباحث والبروفيسور بوزيد بومدين، في قراءته لواقع الحراك الشعبي في برنامج “ضيف الصباح” للقناة الأولى الذي بُثَّ أمس الأربعاء، إنه “بعد مضي 9 أشهر من الحراك الشعبي، تولدت عدة أسئلة تزامنا مع الجمعة والأيام المقبلة: هل يكون هناك مولود أم سيجهض؟ وإذا ولد فهل يولد ولادة سليمة؟ بعضهم يرى هذا الميلاد انتخابا ولو غير متكامل، بينما يرى البعض الأخر أن المولود لن يكون -لا قدر الله”.
وأضاف محدّثنا: “ففي كل الحالات، نحن أمام حَملٍ حضر فيه الوهم والإيديولوجية والصراع، ربما ما كنا نأمل في أن نتحول إلى تغيير في القيم والأفكار والروح والأمل، لكن أن يكون التغيير نحو مزيد من الكراهية بين الفئات والنخب الجزائرية وقراءة محرفة للتاريخ وإعادة الصراع العرقي واللغوي. أعتقد أن هذا الوضع لا يُلائم ما يشهده تاريخ البشرية عندما يتم الانتقال من مرحلة لأخرى بل يلائم ما يعرف بالانتكاسات و”النكوص” في الحركات الجماهيرية والثورات في العالم”.
و أشار بومدين إلى أن الأشهر الأولى من الحراك الشعبي كانت حالمة؛ لم يكن فيها للتلوث الإيديولوجي حضورا، لكن في الأشهر التالية –يضيف شارحا- وقع الانهيار ما أدى إلى خسارة الحراك أشياءً مهمة.
وحسب المتحدث، فقد خسر الحراك حين فشل في أن تكون له قيادة قوية ومفاوِضة لأنه اختطف من قيادات وزعامات أخرى لم تفلح في سنوات سابقة، فاستغلت الوضع لتنصب نفسها كقيادة. كما خسرحين فشل في أن يكون جامعا ومؤلفا لكل الجزائريين، وتوجه نحو تلوث إيديولوجي وشعارات مفرقة. فهذا يدعو إلى علمانية متطرفة والآخر يدعو إلى باديسية نوفمبرية.
و رغم هذه الخسائر، إلا أن الحراك–يضيف محدّثنا- كان ناجحا بإسقاطه بعض الأوثان والأصنام، لكنه لم يسقط صنما واحدا وهو الوهم.. “، فقد توهم الجزائريون في لحظة معينة أنه يمكن أن يتم الانتقال لمرحلة ديمقراطية، وهذا غير ممكن لأن طبيعة الأنظمة لا يمكن أن تستسلم كلية”- أو كما قال.