الجزء2
الدكتور: عزالدين معزة
إنّ فقدان الحرية يشلّ حركة الإنسان ويدفعه إلى الانزواء واليأس والتشاؤم والابتعاد عن كلّ قول أو فعل قد يلحق به الضرر والأذى.
كذلك المزج لمفهوم السلطة والدولة والحاكم يخلق وحدة الحكم باتخاذ القرارات الفردية التي تحمل غالباً في مضامينها الخطأ أو الانتفاع من أموال الدولة والشعب.
ولأنّ الفساد الاستبدادي يبقى لفترة مستوراً وبعيداً عن النقد والمحاسبة والرقابة، لأنّه وجد بقوة السلطة، والفساد عملية تبادلية بينه وبين السلطة، فالسلطة تسمح بالفساد لتحصّن نفسها بالفاسدين وتحميهم، والفساد يجرّ السلطة إلى إفساد حكّامها.
إنّ أنظمة التسلّط والاستبداد بالرعية يدفعها إلى الاستئثار بالحكم منفردة كي تستمرّ هذه الأنظمة بالحكم، وهي المستفيدة من واردات الدولة ومن طرق الاكتساب المالي اللامشروع.
حيث السلطة تسعى دائماً إلى إشباع مطامع أفرادها وأتباعها من جني الأموال والعقارات وإنشاء الشركات، وفتح الحسابات بالخارج، خاصة إذا ما انتقل الفساد إلى السلطة التشريعية أو القضائية سيكون الفساد قد تعمّق وترسّخ في جميع المعاملات والتشريعات والأحكام، وفي جميع شرائح المجتمع.
حيث تصبح هذه المناصب طعماً وطمعاً للآخرين يتسابقون إليها ويسعون بطرق مشبوهة ليحصلوا على ما أرادوه من هذا المنصب.
لذا فالنظام السياسي الفاسد يخلق مزيداً من فساد المجتمع ، بل ويشجعه أحيانا بالسكوت عنه ، لأنّه يتوالد منه وله فتصبح العلاقة جدلية بينهما كلما زاد الفساد وانتشر، كلّما فسد النظام السياسي وتمسّك الفاسد بالسلطة ويجرّ السلطة إلى الفساد الواسع والعام وفساد النظام يولد القمع والظلم والطغيان على حقوق المواطنين وحريّتهم ومستقبلهم.
إنّ ممارسة السلطة لأعمالها من دون معرفة الشعب للقضايا التي تمسّ حياته المصيرية، سواء كانت قضايا الوطن أو القضايا الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية، تغيّب المواطنين عن حق النقد والمعارضة وبيان الرأي في المواضيع المطروحة، خاصة في القوانين المشرعة ليبدي المختصون آراءهم ويتبيّن موقع الخطأ والصواب وإمكانية التعديل والتطوير في القوانين قبل صدورها.
إنّ معرفة المجتمع بشؤون الدولة ومجريات أداء السلطة العملي والقانوني والتطوّري تعني هذه المعرفة إمكانية أخرى وهي مساءلة المنحرفين الفاسدين القائمين على السلطة.
كما أنّها تحدّ من انتشار الفساد بل هذا الغياب يدفع المسؤولين إلى الفساد لأنّ الشعب جاهل بما يفعله هؤلاء ولأنّ المجتمع معرفة والمعرفة قوة كما أنّه أحياناً يحصل طغيان من سلطة على أخرى، كتحكّم السلطة التنفيذية بالقضائية أو تتحكّم السلطة التشريعية بالتنفيذية.
هذا التحكّم يساعد على تفشّي الفساد الإداري والقانوني والمالي رشوة ووساطة بالنقل والتعيين للوظائف والتوزير والتوظيف.
أُثيرت قضية العلاقة بين أخلاق السلطة وأخلاق المجتمع في الفكر الإنساني منذ القديم، كما في تجارب الدول والمجتمعات، من زاويتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى. الزاوية الأولى هي أخلاقية السلطة السياسة وإلى أي مدى يلتزم الساسة الحكام بالقواعد الأخلاقية في إدارة شؤون المجتمع. وقد شغل هذا السؤال الفكر الإنساني عموماً منذ البدايات الأولى للفلسفة. كما احتل حيزاً مهماً في الفكر السياسي الحديث، وخاصة منذ أن أصدر المفكر الإيطالي نيقولا ميكيافيللي كتابه المشهور «الأمير» في القرن السادس عشر، وقدم فيه ذرائع لتبرير الاستيلاء على السلطة بالقوة وممارستها بأية طريقة تحقق الغاية منها على أساس أن هذه الغاية تبرر الوسيلة بغض النظر عن أخلاقيتها ومشروعيتها. ومازال ذلك السؤال عن أخلاقية السياسة مثيراً للجدل حتى الآن. أما الزاوية الثانية، التي تعيننا هنا، فهي تتعلق بإضفاء طابع أخلاقي على السياسة والسعي إلى فرضه أو ترويجه باستخدام السلطة وأدواتها. وكان استخدام الدين في السياسة، ومازال، هو الشكل الأكثر انتشاراً في هذا الإطار. فالأخلاق والقيم الدينية هي المدخل الذي يلج منه مستغلو الدين لتحقيق أغراضهم السياسية، لما تحظى به هذه الأخلاق والقيم من قبول عام. لذلك يمكن استخدامها للتأثير على الناس بغض النظر عن مدى التزام من يستغلونها بها ماداموا قادرين على إعطاء انطباع بأنهم حُراسها وحُماتها. وتنطوي الأيديولوجيات الكلية بدورها على ما يعتبره أصحابها قيماً أخلاقية، وليست فقط سياسية واقتصادية، خاصة بها. وتعد الأيديولوجيات الاشتراكية، وفي مقدمتها الماركسية بتجلياتها المتعددة، هي الأكثر اهتماماً بإبراز هذه القيم عبر ترويج ما يُطلق عليه أخلاق اشتراكية والسعي لبناء «الإنسان الاشتراكي». ونظراً لقوة تأثير كلمة الأخلاق على الناس فقد توسع استخدامها من جانب حكام وحكومات خارج إطار الدين والأيديولوجيات الكلية، سواء سعياً للارتقاء بالمجتمع أو رغبة في السيطرة عليه. ومازال اللجوء إلى التوظيف السياسي للأخلاق، بحسن نية أو بسوئها، مستمراً في غير قليل من بلاد العالم، حتى بعد نحو ثلاثة قرون على تبلور صيغة الدولة الحديثة التي تقوم على اعتبار هذه الأخلاق جزءاً من المجال الخاص وتبعدها عن المجال العام. فلا يجوز للسلطة العامة في الدولة الحديثة التدخل في حياة الأفراد أو تفضيل نمط معين لهذه الحياة على غيره لأي سبب، كما لا يحق لهذه السلطة تربية الأفراد وفق ما تعتقده أخلاقاً ينبغي إلزامهم بها، لأن هذا حق محفوظ للأسرة. فالحياة لا تستقيم في الدولة الحديثة بدون مجال خاص لكل فرد لا سلطان عليه فيه إلا للدستور والقانون. فالقانون وحده هو الحكم فيما يتعلق بالأخلاق أو الآداب العامة. ويشمل دور القانون، هنا، حماية المجال الخاص لكل فرد لا يخالف هذا القانون. ويرتبط ذلك الاحترام للمجال الخاص، وتقييد تدخل السلطة العامة فيه استناداً على دعاوي أخلاقية أو دينية أو غيرها، بمفهوم الإنسان في الدولة الحديثة. فالإنسان في هذه الدولة كائن عاقل بكل ما تعنيه الكلمة، وقادر بالتالي على تقدير الصواب والخطأ، ومسؤول في هذا الإطار عن تصرفاته واختياراته وسلوكه، لكن أمام القانون دون غيره. وقد تبلور ذلك المفهوم عبر استيعاب دروس التجربة الإنسانية على مدى تاريخها، وفي مقدمتها أن احترام المجال الخاص ضروري لتمكين الفرد من تنمية قدراته بالطريقة التي يراها مناسبة له على النحو الذي يجعله مواطناً مشاركاً في تطوير مجتمعه والارتقاء به. هو أن يكون الفرد قوة دافعة للمجتمع إلى التقدم وليس أداة في هذا المجتمع الذي لا يمكن أن يتحرك إلى الأمام إذا ظل خاضعاً لسلطة مهيمنة حتى على الحياة الشخصية لأفراده.
يقول محمد الماغوط :” هل هناك حوار بين السلطة والشعب في أي زمان او مكان في هذا الشرق؟
فأي مسؤول إنكليزي مثلا، عندما يختلف في الرأي مع أي كان في محاضرة أو مناقشة في بلده يأتي بحجة من شكسبير لإقناع مستمعيه.
والايطالي يأتي بحجة من دانتي.
والفرنسي يأتي بحجة من فولتير.
والألماني يأتي بحجة من نيتشه.
أما أي مسؤول عربي فلو اختلف معه حول عنوان قصيدة لأتاك بدبابة فتفضل وناقشها.”
لا نعدم المجازفة بالقول إن السلطة السياسية بقبضتها التنفيذية والقضائية والتشريعية وحتى الإعلامية ليست في الحقيقة إلا واجهة للسلطة العميقة التي تنشِئُها وتتحّكم فيها وتوجّهها. أي أنّ السلطة التي نراها ونُحسّ بقبضتها إنما هي سلطة السطح الظاهر وتحكمه قوّة عميقة هي التي ترسم لها الحدود والنطاق والقدرة على الفعل أو ردّ الفعل.
قد لا يحتاج الأمر إثباتا ولكنّه لا يمكن لأيّ كيان اجتماعي أو مدني أن يعيش دون وجود سلطة تنظيمية تجعل من وجوده أمرا ممكنا، أي أن هذه القراءة لا تتحرك خارج شرط وجود السلطة والحاجة إليها قويّة فاعلة حاضرة على الأرض. لكن من جهة أخرى فإن الحاجة إلى السلطة لا يجب أن تُلغي الشروط التي من دونها تتحول إلى قوة قاهرة وأداة للسيطرة والاستبداد والإفساد وتدمير المجتمع والدولة.
زبدة القول إن علم السياسة الحديث يرى أن الدولة قادرة على تحسين المستوى الأخلاقي في المجتمع الوطني، وتطهير المجتمع من الفاسدين والمحتالين، وتوفير الأمن للجميع، لكن ليس بإضافة مادة الأخلاق إلى نظام التعليم، ولا بزيادة عدد الوعاظ في المساجد والقنوات الفضائية، بل بتوفير سبل العيش الكريم وتعزيز الشعور بالأمان والكرامة لدى جميع المواطنين وتطبيق القانون على الجميع دون تمييز عرقي أو ديني أو لغوي أو جهوي أو فئوي.