نور الدين طيبي/ كاتب وشاعر
وأنت تنتقل من قناة إخبارية إلى أخرى، ومن جريدة الى أخرى، أو محطة… وتقرأ أو تستمع إلى خبر يتعلق بنفس الحدث، لا شك وأنه سيلفت انتباهك تغير المصطلحات المستعملة بين وسيلة إعلامية وأخرى لتوصيف نفس الحدث أو المجموعة أو الحكومة…
فهذه مجموعة (ثوار) هنا، أو(جهاديون) هناك، أو (قوات معارضة) و (مخلون بالأمن العام) هنا، أو (متظاهرون سلميون) هناك. وهذا (يحارب الإرهاب) هنا، أو (يقتل شعبه) هناك… ليتحول التوصيف من النقيض إلى النقيض بين هذه الوسيلة وتلك.
وربما يتساءل النبيه عن سبب تغير التوصيف، عن الهدف من ذلك، قريبه وبعيده.
ليبقى السؤال الأهم قبل الخوض في الأهداف هو ما يمهد له من تساؤلات:
ــ هل فعلا تم إطلاق هذه الوسائل الإعلامية بهدف نقل الأخبار وتقديم الخدمة الإعلامية للمتلقي على اختلاف مشاربه وجنسيته وانتمائه العرقي والديني والعرقي… أصلا؟
أم أن الإخبار بالحدث ــ بغض النظر عن كونه صحيحا أو غير صحيح ــ لا يعدو كونه حاملا للهدف الحقيقي الذي صرف من أجله طائل الأموال، وجند له جيش من الصحفيين والتقنيين (وفي وسائل كثيرة من هذه الوسائل يتم توظيف اختصاصيين في مجالات تظهر نظريا بعيدة كل البعد عن دوائر المهنة الإعلامية، كعلم النفس بشتى فروعه)؟
ــ هل هذه المصطلحات التسميات والتوصيفات هي هدف في حد ذاتها؟
أم هي وسائل لأهداف أخرى؟
وإن كان كذلك، فما هي هذه الأهداف؟
ــ هل تغير التوصيف في نفس الوسيلة الإعلامية بين فترة وأخرى له دلالة ما، ومتى يتغير، وكيف؟
ـــ والسؤال القاصم: هل من نخبة تملك الغوص في هذه الأسئلة البسيطة وتفكيكها؟
لا شك وأن المتلقي عندنا، وبغض النظر عن مستواه الدراسي ــ على اعتبار أن جامعاتنا عملياًّ لا تخرّج بالضّرورة عارفين فقط، بل تُوّزِّع في كثير من الأحيان شهادات لقدرات نقلية غير مُستوعِبة وبالضرورة غير قارئة او ناقدة ــ، هل نحن في حاجة بعدها للتحدث عن حال الراسبين والمتسربين من المدارس في بلداننا؟ هذا المتلقي كلما كان حسه السياسي ضعيفا، كلما كانت قابلية تعرضه للحرمان الحسي كبيرة.
وإن من وسائل الحرمان الحسي إحداث التخبط الحسي أو ما يصطلح على تسميته بالقلق الحسي أو “الصراع الداخلي الكبير” (كما يسميه أحد أساطين هذا الاختصاص في أحد الدوائر الاستخبارية العالمية الضليعة في هذا الموضوع عمليا) الناتج عن تكثيف استعمال المبنى في غير ما يؤول المعنى، هذه الطريقة هي التي تسمح بالتوصل مع الوقت إلى (تغيير الأهداف والقيم والمثل العليا لحياة كاملة)، يصبح بعدها المتلقي (الضحية) قابلا للاستماتة في تبني أفكار يعتقدها أفكاره وأوهام يعتقدها حقائقه ومختلقات يعتقدها مسلمات. إنها مرحلة: “هجر الذات” كما تسميه نفس الدوائر المشار إليها آنفا.
هكذا يكون التأسيس لسراب القناعات، أو لنقل لغرس قناعات مستحدثة في ذهن المتلقي مع تكريس وهم الحرية في تبنيها؛ إنه “الإيحاء الجماعي” أو “إعادة التكييف العقلي للشعوب” كما تسميه الدوائر الواقفة خلف هذه الوسائل (الإعلامية) بشكل مباشر أو غير مباشر.
تكون إذن هذه المصطلحات / التوصيفات الموظّفة عبر هذه الوسائل الجسور عوامل إخلاء وإحلال للموروث الثقافي والاجتماعي في الذّاكرة الجماعية بالارتداد أو بالتحوير والتشكيك في الإحساس بقيمته تارة، وبالتغيير في مفهومه تارات أخرى؛ فتؤدي أغراضا غير ظاهرة للمتلقي المستهدف كـ”مشروع أداة”، أو على الأقل كـ”مشروع محيَّد” (بفتح الياء وتشديدها).
ومما يسهل التوصل لهذه الأهداف أن تكون بنيتا عقل الصحفي الموظف والمتلقي المستهدف قابلتين للاختراق والتكييف بسبب تكوينهما المبني على النقل والحشو والاستقبال الساذج دون آلية تفكير وتمحيص وحس نقدي واختيار واع درج عليها صاحبها منذ بداية تبطّن أناه العقلي والنفسي.
تبدأ عملية التكييف العقلي بما تسميه الدوائر المشتغلة عليها عملية زرع الفكرة البذرة والتي مفادها: “من الحقيقة تأتي الحرية” ــ وهي العبارة المستوحاة من الإنجيل (بتصرف) ــ ثم يبدأ الاشتغال على لاوعي المتلقي المستهدف لزرع فكرة: “هذه الوسيلة الإعلامية مصدر الحقيقة، هي إذن وسيلة معرفتي ودليلي إلى حريّتي”. ثم ما يلبث أن يعتقد بهذا السحر فيمحو مداركه ومتكآته السابقة والأصيلة ليكون حبيس يافطة كتبت في لا وعيه تقول: “هذه الوسيلة الإعلامية هي وحدها تأتيني بالحقيقة؛ أنا إذن بفضلها حرّ “.
ينخرط المتلقي في لعبة لحس المبرد، ويتماهى مع “ملائكة الحقيقة” المعرّفون أنهم (” شهود عيان” أو “ناشطون من عين المكان” أو “خبراء” أو “محللون سياسيون”…).
هنا يكون قد تم الاختراق وخلخلة الإطار المرجعي للمتلقي على مستوى التأويل متبوعا باختراق على مستوى قناعاته (أو ما يعتقدها كذلك) لتتمظهر على مستوى الانحيازيات والسلوكات كردود أفعال يعتقدها أفعالا.
لن نخوض هنا في الحكم القيمي لسلبية القناعات المغروسة أو إيجابيتها على اعتبار نسبية الحكم، فالسلبي لجهة ما إيجابي للجهة المقابلة / العدوّة… لكن المؤكد أنها دخيلة لا أصيلة موحى بها وليست وليدة اقتناع مُؤسَّس؛ والمؤكد أيضا أن ما سبق وتناولناه يحدث كما تناولناه ــ على الأقل نظريا ــ
ولأن الإعلام أضحى من أكبر وسائل الحرب وأثبت أنه أنجعها على الإطلاق في الجيل الرابع من الحروب والتي شعارها: “دمّر نفسك بنفسك”، فإن أهم المشتغلين على حرب الإعلام قد طوروا أساليب إعادة التكييف العقلي انطلاقا من أساليب جربوها على سجناء الحرب منذ الحرب الكورية إلى أسرى فلسطين لدى الكيان الصهيوني مرورا بسجونهم في العراق وأفغانستان ومدارس أشرفوا عليها في بيشاور ثم نشروها باسم الدين في مصر والجزائر لأهميتهما الجيوستراتيجية وتعلق شعبيهما بالدولة الوطنية وباعتبار رمزيتهما لدى الشعوب العربية (تجدر الإشارة أن هذا التقييم هو تقييم المشتغلين في مخابر هذه الدوائر، كما أن لسوريا والعراق نصيب من التخطيط لهذا الموضوع) قبل تعميمها على العالم.