تحضرني كل سنة و يوم (يناير) ببهجته و حركته الاجتماعية غير الاعتيادية يلوح في الأفق، ذكريات من حياتي في منطقة الزيتونة غرب سكيكدة. كان يناير مميزا بأطباق الأكل التقليدي و بحكايات الأجداد و أساطير متوارثة تجمع الأسرة حولها بعد يوم شاق و بارد رغبة في سماعها مرة أخرى. و بهذه المناسبة رغبت في إن يصل بعض من تراث هذه المنطقة إلى الجزائريين في باقي ربوع الوطن.
يطلقون عليه (ينّار) بدل ( ينّاير) و هو يصادف يوم الثالث عشر من شهر جانفي. و الحقيقة أنني لا أعرف سبب هذا الاختلاف البسيط في تاريخه بتقديم يوم أو تأخيره، كما أن هناك اختلافات أخرى في نوعية الأطباق التقليدية التي تحضر ذلك ، يحضر سكان الزيتونة( الشرشم) و هو طبق متفق عليه في أغلب مناطق الوطن ، إضافة إلى صنع (رفيس التمر و الفطير) و أنواع أخرى.
تتبادل العائلات الأطباق و بعض الهِبات تكون عبارة عن منتج زراعي توفر عندهم ك ( حزمة من اللفت أو كمية من البطاطا أو زيت زيتون إلخ..)، فيتوفر لدى كل أسرة ما تتناوله ذلك المساء مهما كانت ضيقة الحال أو ميسورة. هذا هو التكافل الذي كان يسود مجتمعنا الجزائري ذلك الوقت و ما يزال إلى الآن كلٌ بطريقته الخاصة.
الأصل في الاحتفال بيناير هو التفاؤل بسنة فلاحية جيدة و الدعاء بأن تحل الخيرات و البركات في المحاصيل الزراعية لتعم الأرزاق الوفيرة على جميع العائلات.
حين كان كل السكان يعتمدون على الفلاحة لكسب عيشهم ، فيقبلون على الأرض يحرثون و يزرعون و يخدمون حقولهم و يرعون مواشيهم بمشقة و لكن بمحبة و صدق .يستبشرون بالأمطار و يُعدون للأيام الصعبة تدابير تهونها عليهم. وفي شهر جانفي تنخفض درجات الحرارة لأدنى قيمها خاصة في فترات الليل، يصعب التنقل أو التسوق و تقل الحركة فيلجأ السكان لأرضهم لجني ما زرعوا سابقا، و تكون فترة اعتراف و توافق و يتجدد الرابط الشعوري بين الإنسان و الطبيعة.
في السنوات الأخيرة و اعترافا من الدولة الجزائرية بالثقافة الأمازيغية المنتشرة في معظم مناطق الوطن كان ترسيم يوم الثاني عشر من شهر جانفي يوما رسميا للإحتفالات بيناير. وهو في الحقيقة إضافة جيدة إلى موروثنا الثقافي الذي نفتخر به بغض النظر عن اتهامات بالشركية والخرافة التي تتعالى في كل مرة محاولة المساس بوحدة وتآلف الشعب الجزائري متصيدين أيام البهجة و الفرح، يناير ليس سوى تأريخ مبني على النشاط الفلاحي السائد آنذاك.
ما يزال ربط يناير بتاريخ اعتلاء ششناق حكم الفراعنة سنة 950 قبل الميلاد مسألة جدلية و مشكوك في روايتها بين المؤرخين و المهتمين بهذا الشأن رغم أن هذا التاريخ اتخذ كبداية لحساب السنة الأمازيغية، و هي قضية نخبوية لا يهتم لها الجزائريون بقدر اهتمامهم بإحياء اليوم كتقليد اجتماعي متجذر في القدم بإظهار البهجة و التكافل و التراحم بينهم.
لا مظاهر للخرافة أو البدع الشركية في إحياء يناير على طريقة المجتمع الجزائري البسيط و المحب للخير و الداعي للتآزر و التكافل الاجتماعي. إنه ببساطة إحياء لموروث ثقافي و حفاظا على بعض عادات وتقاليد الأجداد لمنع اندثارها في ظل الفوضى العصرية و تطور أساليب الحياة و غزو التكنولوجيا.
لا مظاهر للخرافة في توزيع أنواع الأطعمة و الحلويات على الأقارب و الجيران لينالوا من الفرحة نصيبهم و من الخير و الرزق ما تيسر لهم.
لا حاجة لتشكيك مجتمعنا المسلم الموحد في صحة اعتقاده و في سلامة دينه بسبب أنه يحيي بداية التقويم الفلاحي بما يتفائل به، فهو حين يعلن احتفاله يدعو الله و لا أحد غير الله بأن تحل الخيرات و البركات على أرضه و على أهله.
إن ذلك التشكيك ما هو إلا زرع للفتن وتجديد للتوتر و كره للفرح. لا أرى من ذلك التشكيك إلا رغبة في الاتهام من وراءه شعور بالأفضلية و إنقاص من قدرة عقل الأخر على تسيير أمور حياته.
إنني لا أدافع عن مظاهر غريبة ودخيلة على مجتمعنا الجزائري، مستوردة من وراء البحار لتفتك بأخلاق شبابنا وتحيد بهم عن جادة الصواب. إنني أدافع عن موروث اجتماعي وعن عادات و تقاليد نفخر بالمحافظة عليها ولا ضرر من إحيائها لأنها تميز شعوبنا في شمال إفريقيا عن بقية الشعوب.
لويزة موهوب